الربيع العربي والتحول الديمقراطي

05 نوفمبر 2017
+ الخط -
صاغ عالم الاجتماع سعد الدين إبراهيم، في عام 2000، مفردة "الجملكية"، وهي مزج بين كلمتي "الجمهورية" و"الملكية"، لتوصيف فكرة التوريث في المنطقة العربية في ظل الجمهوريات، بدءا من الطريقة التي خلف فيها بشار الأسد والده في سورية، ثم أصبحت مبرّرا لتهيؤ سيف الإسلام القذافي للحكم في ليبيا. وبدا أن حسني مبارك كان مستعداً لتحضير نجله جمال للرئاسة بعد حكمه مصر أكثر من ثلاثة عقود. وفي اليمن، كان الرئيس علي عبد الله صالح يروج ابنه أحمد خلفا له، وهو ضابط نافذ في الجيش اليمني. أما قصر الرئيس التونسي زين العابدين بن علي فكان تحت تأثير زوجته ليلى طرابلسي، وصهره الملياردير صخر الماطري. وبدا كأن مبدأ الرؤساء مدى الحياة أصبح معمماً على كل الدول العربية، جمهورية أو ملكية، وفوق ذلك بدأت الجمهوريات التحول إلى ملكيات خاصة للأسر الحاكمة.
ووحده، استطاع حافظ الأسد في سورية الملك الجمهوري تمرير الحكم لابنه، أما سيف الإسلام القذافي فهو في السجن، ويخضع الآن للمحاكمة، ويحاكم جمال مبارك بتهمة التلاعب بالبورصة. ولم يعد ممكنا للجنرال أحمد علي صالح، نجل الديكتاتور المخلوع، وهو المتهم بالاختلاس، أن يتولى الحكم في اليمن، وهذا والده المتهم بتخطيط انقلاب قد فقد جزءا كبيرا من سلطته المتبقية.
وظهرت معارضة الشباب العربي سلالات ملكية في الجمهوريات العربية ليس فقط من الخوف من خيانة المبادئ السياسية الجمهورية، ولكن من الاقتناع بأن هذه الأسر الحاكمة قد أصبحت كارتلات فاسدة. وفي مثل هذه الظروف، تم احتكار تراخيص الشركات والوظائف في بيروقراطية الدولة والفرص الاقتصادية الأخرى من الأسرة الحاكمة ودوائرها. ورأى المتظاهرون الشباب أن هذا المستوى من الفساد كابح للنمو الاقتصادي. والأسوأ من ذلك أنه إذا تم تنفيذ خطط الخلافة غير الملكية، فإن هذه النظم الاستبعادية والفاسدة والركود ستستمر عقودا في المستقبل.
يمكن القول إذن إن الشباب العربي كان الحامل الرئيسي للثورات العربية، بهدف تحقيق التغيير 
المنشود. لكن، للأسف سقطت دول الربيع العربي، باستثناء تونس، في براثن حرب أهلية من الصعب التكهن بنهايتها أو مخرجاتها التي ستؤول إليها، كما أن دولا أخرى تحولت دولا منقسمة وفاشلة، كما في اليمن وسورية وليبيا، تعمّها الفوضى، وغياب كامل لمؤسسات الدولة.
هناك عدة أسباب تفسر هذا الفشل، وتدل عليه، لا تنبع أبدا من خصوصية المنطقة العربية وعدم تشابهها مع مناطق أخرى في العالم، وإنما تنبع تماماً من مقومات الدولة العربية الحديثة التي حكمت في تلك البلدان. فقد اصطدمت الثورات العربية بشكل قوي بهياكل مستبدة، تعود إلى الأنظمة السابقة، مع عدم رغبتها في التحول نحو دمقرطة المؤسسات وإدارة عملية التحول بذاتها، كما جرى في مناطق أخرى، كأوروبا الشرقية. بالعكس، لعبت هذه الهياكل دورا تدميريا، ليس في عرقلة عملية التحول فحسب، وإنما في تدميرها، عبر المساعدة في إيجاد منظمات عسكرية غير حكومية، كما حدث مع "داعش" في سورية والعراق، وحزب الله في سورية ولبنان والعراق، والحوثيين في اليمن، كل هذه الهياكل العسكرية تم تشكيلها بشكل مباشر أو غير مباشر على يد هياكل الأنظمة السياسية السابقة، بهدف عرقلة عملية التحول والانتقال. ولذلك، انتقلت هذه البلدان إلى مرحلة من الفوضى العسكرية، وليس السياسية فحسب، وهذا ما يفتح الباب واسعا لدخول هذه البلدان إلى الحرب الأهلية، لتفتيت بناها الاجتماعية الضعيفة أصلا، والمكونة من انتماءات قبلية وطائفية ما قبل دولتية.
العامل الأخير الذي لعب دورا في فشل عملية التحول في دول الربيع العربي هو افتقاد مؤسسات إقليمية تقود، أو على الأقل ترعى عملية التحول، كما جرى مع الاتحاد الأوروبي في أوروبا الشرقية، فجامعة الدول العربية مؤسسة تقليدية، لا تحكمها مؤسسات ديمقراطية أو قانونية، وهي أصلا ليست معنية بدفع هذه الأمور، فضلا عن فرضها، باعتبارها وقائع سياسية، على الأرض. وبالتالي تركت كل بلد من بلدان الربيع العربي يأخذ مسارا خاصا، وربما كانت تونس استثناء له مقوماته الخاصة، بينما تبقى دول الربيع العربي الأخرى، مثل سورية وليبيا واليمن ومصر، لكي تمر عملية التحول عبر التجريب، بالنسبة لنخبها السياسية المعارضة، وتكون أكثر صعوبة في تردد المجتمع الدولي في دعم عملية التحول السياسي، حتى سمح لعملية التحول هذه أن تنزلق إلى صراع مسلح، وربما حرب أهلية. وللأسف، تبدو الحقيقة المرة اليوم أن الحرب الأهلية هي الخلف الطبيعي لطبيعة الأنظمة التسلطية التي حكمت بلداننا العربية عقودا طويلة.
ترتبط أي عملية للتحول الديمقراطي بعدد من القيم، مثل العقلانية والتعدّدية والمساواة بين الجنسين والمواطنة، وهي بمجملها تشكل المدخل الضروري لتحول نظام تسلطي إلى نظام ديمقراطي، حيث تعتبر هذه القيم بمثابة الإطار النظري التي تحمي عملية التحول من الانزلاق باتجاه نظام عسكري، أو الانتقال نحو نمط من الفوضى التي تهز استقرار البلد. فالفئة الأكثر تأثراً بالتغيير هي الشباب، سلبياً كان أم إيجابياً، خصوصا في المنطقة العربية التي تشكل 
شريحة الشباب فيها الفئة العمرية الأكثر اتساعاً، فالمؤشرات الاقتصادية السلبية، مثل ارتفاع نسبة البطالة، خصوصا بين الشباب، وتدني فرص الحصول على وظائف عامة أو خاصة، وتدني مستوى البنية التحتية، وانعدامها في بعض المناطق إلى مؤشراتٍ كثيرة لا تشكل عاملاً حاسماً في عملية التحول الديمقراطي، وإن كانت تمثل عاملاً رئيساً في ازدياد التذمر من سياسات النظام، فالأزمة الاقتصادية كما يقرر خبراء كثيرون غير كافية لإسقاط النظام، لكن المهم فيها هو الآثار المترتبة على هذه الأزمة، لاسيما مع عدم قدرة النظام على تسوية هذه الأزمة الاقتصادية أو إدارتها. فالأزمة الاقتصادية غالباً ما تتحالف مع الأزمة السياسية، لتشكّل معاً نفقاً صعباً لا يستطيع أي نظام أن يتجاوزه من دون تقديم تنازلاتٍ حقيقية، تجعله يدخل في التفاوض مع القوى السياسية والاجتماعية الفاعلة الأخرى. كما أن السياسة الدولية وتوجهاتها تلعب دوراً في توجيه دفة السياسات المحلية والوطنية، داخل كل بلد، فعندما يتبنى المجتمع الدولي سياسةً تعتمد على احترام حقوق الإنسان، ومبدأ تعزيز الشفافية ونشر الديمقراطية، تسعى الحكومات المحلية للتكيف (ولو مصلحيا ومؤقتا) مع أجندته السياسية، ما يكون له دور فاعل في تقوية (وتعزيز) نشاط المجتمع المدني الذي يرتكز في مبادئه على هذه المقولات، ويستند إليها.
المؤشر الأخير على اعتلال النظام في مرحلة التحول الديمقراطي هو الانتصار الساحق للفكرة الديمقراطية داخل نخبها السياسية المعارضة والمدنية، فللنخب دور مركزي في التحول باتجاه نظام ديمقراطي، إذ ليس بالضرورة أن تقود كل عمليات التحول من أنظمة سلطوية إلى أنظمة ديمقراطية بشكل آلي وعفوي، إذ ربما تنتقل هذه النظم إلى نمط من الحكم العسكري، أو أنها تسقط في فخ الحكم الثيوقراطي لرجال الدين، إذا افتقدت القوى السياسية للمبادرة، وكان لرجال الدين فيها الصوت الأقوى داخل المجتمع.
BCA0696E-8EAC-405E-9C84-3F8EA3CBA8A5
رضوان زيادة

كاتب وباحث سوري، أستاذ في جامعة جورج واشنطن في واشنطن