التطبيع برخصة
لا ليسوا سواء. التطبيع درجات، ودركات. جريمة، يرتكبها المهزومون، أو المضطرون، أو الوارثون لتطبيع من سبقهم، يقترفونها سرّا، وخفية، وعلى قلق، وعلى استحياء، وفي حدود، ومن دون تماد. ضعيف لا يملك ولا يحكم ولا ينتج ولا يُصدر، ولا سلاح لديه ليحميه، ولا أوراق لديه ليساوم بها، ينصاع، رغما عنه، لقويٍ يملك ذلك كله، يهادنه ليحتمي به منه، ويحمي مصالحه، هذا ما أفهمه وأرفضه. أما غير المفهوم، وغير المقبول، وإن كان متوقعا، لصدوره عن أهله، فهو أن يتحوّل الاغتصاب إلى علاقةٍ بالتراضي، والتعاقد، والاستمتاع المتبادل. وأن ينتقل المطبّعون من ستر التحرّج إلى فاترينات التبرّج. أن تتحول الجريمة النكراء إلى مصدر للتباهي، ويُنصب الحفل، والسبوع، ويأتي المعازيم، للتهنئة بوصول "ابن الحرام"!
عرفت مصر التطبيع قبل غيرها. نحن بدأنا ذلك كله، كانت إكراهات اللحظة، كما برّروها لنا، وكانت الشعوب أضعف من أن تمنع الصفقة الحرام، وأشرف من أن تقبلها. الحكام بدورهم، أنور السادات ومن جاؤوا بعده، كانوا أخوف من أن يتمادوا في ذلك. ظلت إسرائيل، في المجال العام، هي إسرائيل، الكيان، لا الدولة، العصابة، "العدو". تناولت الصحف ما حدث، ورفضته، وأدانته. تحول التطبيع إلى تهمة ووصمة وسبّة. ومن يصرّح، ولو تلميحا، بقبوله يعاقبه مجتمعه، ولا تجرؤ الدولة على إعلان تضامنها معه أو حمايته، إلا خفية. وصل الرفض إلى صيغ متطرّفة، وغير مفهومة، ترجمة قصيدة أو رواية أو كتاب، لصهيوني، المشاركة في مهرجان يدعو أحدهم، الذهاب في زيارة سياحية إلى القدس والحصول على ختم إسرائيلي، الذهاب من دون الحصول على الختم، مجرّد الذهاب، مجرد أن ترى الصهاينة بعينيك، جريمة يعاقب عليها قانون "الظل"، بل إن الدولة في هذه المعادلة هي التي تحوّلت إلى ظل وهامش، وتحمّلت، على قدرتها، واستبدادها، مزايدات لا تنتهي من معارضيها، بالحق حينا، وبالمبالغة، والتطرّف، و"الأفورة" أحيانًا أخرى، ولم تجرؤ، يوما، على الرد، إلا من خلال وسطاء يبررون، ويأكلون "العلقة" نيابة عنها.
كان الخطاب الديني، في مصر وغيرها، شبه مجمع على حرمة التعامل مع الصهاينة، أو الصلح معهم، ولم تصدر فتاوى إباحة التطبيع سوى من شيوخٍ رسميين. حاول بعضهم اللجوء إلى صيغ اعتذارية، للتخلص من وصمة التطبيع، ومنهم الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، شيخ الأزهر الأسبق، الذي تورّط في تأييد "كامب ديفيد"، لكنه لم يتوقف، وأتبع ذلك بآراء واضحة في رفض التطبيع مع العدو، وامتداد الخط "على اعوجاجه" من الحكام والساسة إلى الشعوب والمجتمعات، ورفض استقبال رئيس الكيان الصهيوني، عيزرا وايزمان، في زيارته القاهرة، كما رفض حصول الصهاينة على مياه النيل من خلال ترعة السلام، ووصل الأمر إلى تأثيمه زيارة القدس!
كانت السينما، وهي المملوكة حرفيا للدولة، تتناول إسرائيل، طوال الوقت، بوصفها العدو، وتقدّم المطبع بوصفه الخائن. تشاركها الفنون كافة، وكان الطريق إلى اغتيال أي شخصية عامة هو مجرّد الإشارة إلى أي نشاط تطبيعي يقوم به. الأمثلة قليلة، نظرا إلى فداحة الجرم، لكنها موجودة، منها ما تعرّض له الشيخ علي جمعة من سخط شعبي وإعلامي، بعد زيارته للقدس، ومنها ما تعرض له الكاتب المسرحي علي سالم، الذي دعا إلى التطبيع، وذهب إلى إسرائيل، فاستبعده اتحاد الكتاب، وهاجمته الصحف، وصرح، هو نفسه، بأن الهجوم وصل إلى بيته، وبأن أولاده لم يرضوا عن فعلته. وحين حاول أحدهم توريط الرئيس السابق محمد مرسي، وإظهاره بمظهر الخائن، حصل على توقيعه على خطاب رسمي يحمل بعض الود إلى شيمون بيريز ونشره، وكان ذلك كفيلا بوصمه، ومعايرته، ومعايرة مؤيديه بهذا الخطاب إلى الآن!
لا تتساوى أشكال التطبيع، ولا يمكن تبرير الاتفاق الأخير بين نتنياهو وبن زايد، أو تبرير تأييده، من مثقفين "نصّابين"، بأنه تطبيع مثل غيره، في مصر (قبل السيسي)، أو تركيا، أو قطر، أو غيرها، التطبيع مثل الدعارة، كله مرفوض، إلا أن "التطبيع المرخّص" هو الأحط بإطلاق.