عن جيل فقد الطريقة وجيل يوشك أن يفقد الطريق
تربّينا، نحن أبناء جيل "الربيع العربي"، على كتابات من سبقونا من فلاسفة ومفكرين وشيوخ دين وأدباء وكتّاب ونقّاد، ذهبوا مذاهب شتَّى بحثاً عن إجابات أسئلة واقعنا. إرث طويل من المكابدات والتجارب والأخطاء، وصراعات بلغت في شططها حدّ التكفير والتخوين وتكسير العظام، لكنّها لم تفقد في خطاباتها الرئيسة، وفي أغلب هوامشها، حدّ الاختلاف حول البديهيات. كان الخلاف، في الغالب، حول الطريقة، ولم يتدنَّ يوماً، في خطابات الصدارة، إلى دركات الخلاف حول الطريق، لم نقرأ يوماً من ينظر إلى أنّ إسرائيل ليست العدو، ومهمّتها حراسة المصالح الغربية الاستعمارية في بلادنا، قرأنا كثيراً عن اختلافات جذرية حول طرق المقاومة، وأيديولوجيات المقاومين، ومدى جديتهم ونفعهم وفهمهم ووعيهم واتساقهم، لكنّنا لم نقرأ أو نسمع يوماً من يخبرنا من دون مواربة: "لا تقاوم". ومن موقع الكاتب الوطني، المنحاز إلى قيم الحرّيات والديمقراطية (!)
في عام 1996 استضافت قناة الجزيرة محمّد عمارة ونصر حامد أبو زيد (رحمهما الله) للنقاش في أفكار أبي زيد. واتهم عمارة (ساعة على الهواء) فكَر أبي زيد بأنّها جزء من الحملة الاستعمارية على العالم الإسلامي، وأنّ أبا زيد تورّط في هذه الفِكَر، ربّما من دون قصد، فيما حاول أبو زيد أن يقنع عمارة بأنّ قراءته غير علمية إنّما متربِّصة وأيديولوجية. وقبل أن يوشك الحوار على الانتهاء من دون أن يقتنع أيّ من الطرفَين بوجهة نظر الآخر، قال عمارة، في معرض حديثه بعد تأكيدات بأنّ ما يقوله حقيقة لا مجاملةَ فيها، إنّ تقييمه للموقف السياسي لنصر أبو زيد أنّه "وطني.. متماسك.. عروبي.. ضدّ الصهيونية.. ضدّ الاستعمار.. يدافع عن كرامة الأمة". هكذا كان عمارة بطريقته، وهكذا كان نصر بطريقته، وهكذا كان أغلب كُتّاب ومفكري جيلهم المُؤثّرين، على اختلاف طرائقهم، وما دون ذلك كان أقلّ من هامش مُستهجَن، وغير ذي وزن أو قيمة أو اعتبار من أيّ طرف.
إذا تابعتَ نقاشات الأطراف التي تستحق هذا الوصف منذ 7 أكتوبر (2023)، وتوقّفتَ أمام كثير من الآراء والكتابات والتعليقات بعد اغتيال نصر الله أخيراً، ربّما تُشاركني الرأي في أنّ أزمتنا الآن تجاوزت مآلات الممارسات الإسلاموية للسياسة، وما يقابلها من ممارسات ثقافويّة لا تقلّ سذاجةً وخطورةً، أو الأحكام الطهرانية المتهوّرة غير المسيَّسة وغير الواقعية لمواقف وممارسات سياسية، أو حتّى الاختلاف حول المناهج والطرائق والأساليب والأيديولوجيّات، إنّما يوشك أبناء هذه اللحظة أن يفقدوا الطريق نفسه، وبات لزاما على بعضنا التدليل على ما قبل البديهيات، إسرائيل هي العدو (هذه معلومة)، وهي هنا في بلادنا، امتداد للاستعمار الغربي في صورته الأكثر ذكاء، والأكثر وحشية إذا لزم الأمر، هي هنا لمزيد من تمكّن الغرب الاستعماري من نهب ثرواتنا، وإعاقة تقدّمنا، بما نملكه من إمكانات بشرية ومادّية جبّارة حال اتحادنا. المقاومون سياسيون لهم أخطاؤهم القاتلة، بعضهم مُستبِدّ، وبعضهم تورّط في مساندة أنظمة استبدادية، وفق حساباته وتوازناته، وتسبّب في مقتل آلاف الأبرياء، وبعضهم لا يصلّي ولا يصوم، وبعضهم انتهازي، وقد نزل قرآن في أصحاب النبي (ص) يقول: "منكم من يريد الدنيا، ومنكم من يريد الآخرة". ذلك لأنّهم بشر، وكذلك المقاوم، الذي يظلّ رغم أخطائه (وجرائمه) كلّها مقاوماً، لا تنفي ممارستُه مواقفَه، والعكس صحيح. كان ذلك مفهوماً وبديهيّاً لدى من سبقونا، والآن صار موضعَ خلاف. فعل المقاومة نفسه صار خلافاً في معركة مفروضة علينا، وقد أثبتت تجاربنا كلّها في تفاديها أنّه لا سبيل إلى ذلك، فالعدو هنا ليقتل، والعدو هنا لينهب، والعدو هنا ليتوسّع، والعدو هنا لإفشالنا، من دون سبب واقعي آخر، سواء قاومتَه أو استسلمتَ له بدعوى أنّ الاعتراف بالهزيمة يعني الاستسلام حلّاً أخيراً، مُجرَّد طرح هذه الإحباطات بوصفها فِكَراً ورؤىً واقعيةً يخبرك من نحن الآن، وأين نحن الآن، وربّما يخبرك عن المعنى الحقيقي للهزيمة، والطريق الوحيد لتجاوزها.