"يا اللي بلادك بعيدة"
"واحد اتنين سَرجي مَرجي/ إنت حكيم ولَّا تمرجي؟/ أنا حكيم الصحية/ العيان أديله حقنة/ والمسكين أديله لقمة/ بدي أزورك يا نبي، ياللي بلادك بعيدة…". هذه الأبيات جزء من إحدى أشهر الأغنيات الفلكلورية المصرية، تفرّق بين الحكيم (الطبيب)، الذي درس الطبّ في الجامعة، و"التمرجي" (الممرّض)، الذي لم يدرس الطبّ، وربّما لم يدرس التمريض، إنّما هو "صنايعي" يعمل بالخبرة، وهو مجتمعياً أقلّ رتبةً من الطبيب.
تحتفي الأغنية بالحكيم، وتنسب إليه مداواة المرضى، والعطف على المساكين، ما يعني جريان الخير على يديه، سواء في مهنته أو في حياته، ومن هنا أشواقه للنبي صلى الله عليه وسلم. فهذه صورة النبي في المخيال الشعبي، بشير الخير، وباب الشفاء، ولقمة الفقير، والرحمة للعالمين، فما الذي يحول دون الزيارة ويجعلها أُمنية؟ ... إنه بُعد بلاد النبي (يا اللي بلادك بعيدة). لا يبدو المعني هنا ابن زماننا، فلا طائرة ولا باخرة ولا وسائل مواصلات حديثة إنّما "المحمل" أو قوافل الحج على الجمال وغيرها، والذي ظلّ هكذا في مصر إلى نهايات القرن التاسع عشر.
تغيّرت الدنيا، وتقدّمت وسائل المواصلات، وما زال الخيال الشعبي المصري يرى بلاد النبي بعيدةً، ربّما لأنّه خيال الفقراء الذين لا يستطيعون إلى الحج والعمرة، أو إلى مُجرَّد السفر خارج البلاد، سبيلاً، وربّما لأنّه خيال المُحبّين من دون معرفة، فـ"سيرة الحبيب" غذاء أرواحهم، وراحة قلوبهم، وجلاء همومهم، لكنّها ليست نور عقولهم ودليل دروبهم. يظلّ النبي بعيداً، وهو الحاضر في كلّ وقت، وفي كلّ حين، في الحلف به (والنبي)، وفي الترحيب بالضيف (زارنا النبي)، وفي الفصل في المنازعات (صلّوا على النبي)، وفي صرف سيرة من لا نحبّ (افتكر لنا النبي)، ناهيك عن حضور آل بيته في ذلك كلّه وأكثر، لأنّهم رائحته وعترته، لكنّك لو سألت أصدق المُحبّين عن تاريخه فلن يروي لك سوى الغزوات، وبعض المُعجزات الحسّية (يستند أغلبها إلى روايات ضعيفة أو موضوعة أو حكايات شعبية لا أصل لها).
إذا أردت تحصيل المعارف الإسلامية، وذهبت إلى أيّ جامعة أو كلّية أو معهد أو دراسة حرّة، فإنّ البداية، في الأغلب، لن تتجاوز حفظ المتون، و"من حفظ المتون حاز الفنون"، متون الفقه، ومتون الحديث، وهلمّ جرّاً، لكنّك لن تصل إلى السيرة إلا متأخّراً، وربّما لن تصل إلّا بنفسك. يتساءل صديق، وهو أستاذ العقيدة في إحدى أشهر كلّيات الشريعة في العالم العربي، لماذا لا نبدأ بالسيرة؟ ... يرفض أغلب زملائه من المتخصّصين في المعارف الشرعية فكرته، كما يرفضها بعض طلابه، ويُعلّل بعضهم ذلك بأنّ البدء بالسيرة قد يورد أصحابه موارد التهلكة في فهم النبي، وفهم مواقفه، ومن ثمّ فهم الدين كلّه، فعلى الدارس أن يشحن عقله ووجدانه بقراءات السابقين، وتأويلاتهم أولاً، ثمّ يذهب مطمئناً حيث أراد، في السيرة أو غيرها، فلا يخرج عن فهم من سبقوه.
ينقل أستاذنا السؤال لي بوصفي مهتمّاً من خارج الحقل الشرعي، ولا تعوقني إكراهاته (حسب وصف الصديق). تعجبني الفكرة، وأراها عمليةً، فمن السيرة يمكن التوغلّ برفق في نصوص الوحي وفي مرويات الحديث، وفي آراء العلماء والفقهاء والمتكلّمين والفلاسفة، ويظلّ ظلّ النبي ممتدّاً فوق ذلك كلّه، بتجربته وبحكمته وبتركيبته السويّة، وبشخصيته الآسرة ليناً وقوّة، وبأخطائه البشرية، التي تكلّم عنها القرآن الكريم وقوّمها، وبمشاعر المؤمنين به تجاهه، وهي ربّما المظلّة الوحيدة الآن، التي تجمع أصحاب المذاهب الإسلامية المُختلِفة. ولكن… هنا أتوقّف وأسأل أستاذنا: أيّ سيرة؟ ... فقد صُبّت أحداث السيرة في قوالب التمذْهُب والتحزّب، وصارت أغلب السير القريبة من يد القارئ المعاصر (ولغته) "مؤدلجةً" بطريقة ما، وتوارى "تاريخ محمّد" خلف تواريخ أتباعه وأزماتهم. وافقني الرجل (الذي لم يأذن بذكر اسمه) لنخلص إلى حاجتنا، قبل البدء بتدريس السيرة، لأن يكون لدينا ما ندرسه، فما زالت بلاد النبي بعيدة... صلى الله عليه وسلّم.