حلمي التوني... إجابة هادئة عن سؤالٍ صاخب

10 سبتمبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

ولد حلمي التوني في 1934. قد تبدو هذه بدايةً تقليديةً عن فنّان (وإنسان) غير تقليدي، لكنّها ليست كذلك، إنّما بداية لازمة للوقوف على أكثر خصيصةٍ أهمّية لدى التوني وجيله، هذا الجيل الذي رأى العسكري الإنجليزي يتجوّل بسلاحه في شوارع بلاده، فشبّ على حلم الاستقلال الوطني.
انشغل التوني، مثل أغلب أبناء جيله من المثقّفين المصريين، بسؤال الهُويَّة، وعانى هذا الجيل (وغيره) من تحوّل السؤال مزايدةً كُبرى، سياسيةً ودينيةً. لكنّ التوني، الفنّان، لم يتجاوز السؤال مللاً، ولم يسمح لمخاضاته بأن تجرفه معها أو إليها، إنّما شارك آخرين في إجابةٍ هادئةٍ، وكان مشروعُه كلّه تجسيداً جمالياً لهذه الإجابة.
جاء التوني من تونة الجبل، إحدى القرى التابعة لمركز ملوي بالمنيا، أرض البعث الأبدي لدى قدماء المصريين، ولم تغادره قريتُه وهو يطوف أرجاء العالم بحثاً عن الجمال. ومن مفردات قريته أولاً، ثمّ بيئته وثقافته المصرية في مداراتها الحضارية الفرعونيّة والقبطية والإسلامية، جاءت لوحاته. قد تجد آثار الوعي الجمالي المُركَّب المصقول بتجارب الأمم الفنّية شرقاً وغرباً في خطوطه، لكنّك لن تجد في شخصية اللوحة، في الأخير، سوى مصرية صعيديّة، بحراوية، إسكندرانيّة، بنت بلد، تنظر إليك بعيونها الواسعة، فتبدو وشومُها الطوطمية، وأقراطها الهلالية، وسلاسلها الـ"ما شاء الله"، وكُحلها، وسحرها، يحيط بها عالمها، عالم التوني، وبيئته الثريّة، النخلة والوردة والديك والهدهد والسمكة والبيضة والحصيرة والقشّ الملون، والبساط والكليم وسلال القمح، والتصاوير الحائطية، والواجهات الشعبية، وعربات الباعة الجائلين، وفرسان السِّيَر الشعبية والأساطير الدينية.
لا يرسم حلمي التوني واقعه، بل يرسم به، لا يرسمُه كما هو، بل يعيدُ اكتشافه، ليمدّ جسوراً بين حضارات مصر المختلفة من ناحية، وبين مصر والعالم من حولها من ناحية أخرى. هنا التجربة، وهنا الإضافة، وهنا إجابة السؤال: من نحن؟ نحن ذلك كلّه.
كتب فريد منصور مقالاً في مجلة العربي الكويتية (إبريل/ نيسان 1982)، خلاصته أنّ الفن التشكيلي العربي مناخ غربي، جاء من الغرب، ومن الاحتكاك بالغرب وتقليده، إذ لم يكن "أيّ مثال لفنّ عربي محلّي يقتدى به... وأيّة تقنية فنّية عربية يستقى منها"، ليردّ حلمي التوني في المجلة نفسها (يوليو/ حزيران 1982)، في مقال بعنوان "أحقّاً لم يكن هناك أيّ مثال لفنّ عربي يقتدى به؟"، واستمرّ في طرح الأسئلة في هدوء، ومن دون تعالٍ هُويَّاتي، "فأين ذهبت روائع المخطوطات العربية الإسلامية، وتصاويرها الفائقة الجمال ذات الشخصية الفريدة، والأسلوب المتميّز، والتقنية الخاصّة جدّاً؟ وأين المدرسة البغدادية الموصلية الواسطية العباسية؟ ثمّ المدرسة المملوكية المصرية بعد انتقال مركز الحضارة الإسلامية العربية إلى القاهرة عقب تدمير بغداد عام 1258؟ ثمّ أين مدارس الفنّ الشعبي العربي الإسلامي المستمرّة (الرسم على الزجاج) في الشام وتونس؟ ثمّ إذا لم يوجد فنُّ نحت إسلامي عربي بارز (عدا تماثيل قصور المشاتي في بادية الشام) لأسبابٍ تحفّظيةٍ تقليديةٍ خوفاً من عقدة الوثنية البائدة، ألم توجد فنون أخرى تمثّلت في فنون النحاس والزجاج والخشب والخزف والتكفيت والتذهيب والساعات المتحرّكة والآلات إلى آخره ممّا يصنّفونه ويسمّونه في حضارة الغرب بالفنون الصغرى، ونعتبره نحن من صميم فنوننا الإسلامية العربية الكبرى؟ وبالمناسبة، هل كتب علينا تقليد الغرب في فنونه. وإذا نجوْنا من ذلك وقعنا ولم نستطع أن ننجو من استعارة مقاييسه وتصنيفاته في الحكم على فنوننا وحضارتنا؟ ثمّ هل نذكر (أم لا داعي) الفنّ الذي يسمّونه في الغرب فنّ الأرابيك، والذي تُؤلَّف الكتب (في الغرب أيضاً) لتحليله وإدراك قيم (ومواطن) الجمال والسمو فيه؟ ألا يعتبر نقّاد الغرب ودارسوه هذا الفن من فنون البشرية الأكثر تقدّماً ورقياً بمقاييسهم هم، مقاييس التجريد و(الاستاطيقا) المجرّدة؟ ألا يوجد في هذا كلّه فنّ عربي يُقتدى به أو ثمّة تقنية عربية يستقى منه؟"... هكذا كان ردّ حلمي التوني الذي حمل وجهة نظره، ووجهة فنّه، ووجهة حياته كلّها.