دفاعاً عن القتلة واللصوص والمتحرّشين
يحتاج المصريون إلى من يصرخون في وجهه، من يحمّلونه مسؤولية ما يحدث لهم، من يعنّفونه، من يوبّخونه. كلّ إناء ينضح بما فيه، والمصريون فيهم ما فيهم، إفقار في السياسات وتفقير في الخطابات، والمشترك دائماً هو "حرق الدم". "حرق الدم" قبالة ماكينات المقبوضات والمدفوعات، و"حرق الدم" قبالة ماكينات الإعلام وفي مواقع التواصل الاجتماعي. مطالبات بالصبر على الفقر، وتأنيب يصل إلى درجات غير مسبوقة من الابتزاز الديني والوطني في خطابات الساسة البكّائين حيناً، والسجّانين القتّالين المتواطئين مع العدو في الحين نفسه. لا تكتفي الدولة بالسكوت عن سياسات إذلال المواطن، بل تطالبه بالتهليل لهذا الإذلال ودعمه وتأييده، علامةً على وطنية المواطن الصالح الشريف، التي ليس دونها سوى الخيانة، التي تستوجب العقاب، وكأنّ ذلك كلّه ليس عقاباً كافياً على مُجرَّد أنّك مصريٌّ.
لا يستطيع مصريٌّ واحد في الداخل أن يتجاوز حدودَه في التعبير عن نفسه أو عن رفضه أو عن غضبه، ولو في غرفة نومه. كما لا يستطيع أن يتجاوز حدودَه خارج حدود الوطن، فقد يرجع، أو يقضي إجازة، أو يحتاج إلى إستخراج مُستنَد، أو تجديد جواز سفر، وهنا سوف يجد الدولةَ الوطنيةَ في انتظاره ليدفع أثمان مشاركاته، ولو لم يحتج إلى الدولة في ذلك كلّه، فأهله في الداخل، أبوه وأمّه وأشقاؤه وأقاربه، فإذا تجاوز حدودَه، ولم يكن موجوداً فـ"الموجود يسد" لتأديب المواطن "الخارج"، وضرب المربوط كي يرتعب السائب، في سابقة، ربّما هي الأولى، في تاريخ دولة يوليو (1952)، وهي تعقّب أقارب المعارض بدلاً منه وردعاً له، وهو مسلك تتجاوز فيه الدولة تعريفاتها إلى "التنظيمات الإجرامية".
يدفع المصريون في الداخل والخارج أثماناً مضاعفة لمواقفهم، ثمن الكلمة، وثمن "اللايك"، وثمن "الشير"، وثمن "الإيموشن"، هوس التعقّب لدى أجهزة الأمن، أمن الدولة دون غيرها، بلغ حدوداً لم يبلغها خيال كاتب هزلي، ومن ثمّ بات المصري، أيُّ مصري، وفي أيّ مكان، خائفاً من أصابع يده، فقد تورّطه، في "تشويحة" عفوية، وغير مقصودة، فيضغط على أيّ سلك عريان، لدى حضرة الضابط، فتتكهرب حياته كلّها.
أصاب هذا المناخ المُسمَّم المصريين في أعصابهم، ولم يعد أحد يتحمّل إيذاءً من جهة أو سلطة أخرى، دينية أو اجتماعية، غير قادرة على عقابه، مثل السلطة السياسية، وسواء كان الإيذاء حقيقياً أو متخيلاً، واقعاً أو محتملاً، فالمصريون يصرخون في وجه صاحبه متى وقع تحت أيديهم، هكذا تصنع السلطة ترينداتنا اليومية حينا، أو تستغلّ العفوي منها فتنفخ فيه، عبر كتائبها الإلكترونية وتيوسها المُستعارة في مواقع التواصل الاجتماعي، مُستخدِمةً مفردات خطابات معارضيها، ذات الطابع الحقوقي والإنساني، كي يتحوّل الترند كيس ملاكمة، يتلّقى عن السلطة لكمات المصريين وركلاتهم وصرخاتهم.
بات التفريغ في التريندات وسيلةَ التنفيس الوحيدة التي تحول دون تراكم غضبات ملايين المصريين، وتحوّلها المستحق انتفاضةً شعبيةً أو ثورةً، لن تكون مثل سابقتها، تأكل مَنْ جَرّف الأخضر وحَوّل اليابس إلى "كافيهات" و"كباري". زد على ذلك أنّه لم يعد لدينا رفاهية تجاوز التريند إلى ما هو أجدى، فكما أنّ الترند فرصة السواد لتفريغ شحنات الغضب، فهو فرصة الكتاب والمثقّفين للكتابة عنه أو التلميح به إلى ما لا يستطيعون الكتابة عنه، فهو معركة آمنة، سواء للكاتب الذي ينحاز بالفعل إلى قارئه، لكنّه لا يقوى على دفع الثمن (وهذا حقّه وأحياناً واجبه)، أو لـ"الأرزقي" الذي يبحث عن موضوع والسلام. فأين تفر من الترند إلّا إليه؟
لا يحتاج المصريون، والحال كذلك، إلّا لمن يذكّرهم مع كلّ ترند بالبديهيات التي تحفظ لهم توازنهم (وغالباً سيشتمونه ويصنفونه)، بأنّ المتهم بريء حتّى تثبت إدانته، وبأنّ الإدانة مسألة قانونية، وليست إجتماعية، وبأنّ الثبوت مسألة فنية وإجرائية وليست حدسية أو تخمينية، وبأنّ الحقوق، سواء كانت شرعية أو قانونية، لا تستثني أحداً، ولو كان قاتلاً أو تيساً مُستعاراً أو متحرّشاً، أو واحدا من هؤلاء الذين سرقوا حيواتنا.