عقب محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، شعر المعلم السوداني مأمون أحمد، بالقلق على مصير وظيفته في المدرسة السودانية التركية، التي افتتحت في الخرطوم قبل 17 عاماً، إذ أعلن جمال الدين أيدين، السفير التركي لدى الخرطوم، عن أن "الرئاسة السودانية اتخذت قراراً بتأميم المدارس التابعة لمنظمة فتح الله غولن"، خصم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والمتهم الرئيسي بتدبير محاولة الانقلاب التي جرت وقائعها في 15 يوليو/تموز الماضي.
غير أن المدرسة لا تزال تعمل بذات الهيئة الإدارية والمهنية، وفق ما يؤكده مأمون أحمد، الذي تبدلت مشاعره إلى الطمأنينة، بعد أن تم إنزال اللافتة القديمة التي تحمل اسم المدرسة السودانية التركية، ووضع أخرى كُتب عليها "مدرسة عبد الله بن أبي السرح الدولية".
نشاط غولن التعليمي في السودان
تعود العلاقة بين المتصوفة الأتراك والسودان إلى القرن السابع عشر، وتحديداً إلى الفترة التي شهدت رحلة المتصوف والسائح التركي أوليا جلبي إلى مدينة سنار (عاصمة السودان القديمة)، بحثا عن قبور الأولياء والصالحين السناريين، وفق ما دونه في كتابه "سياحتنامة".
وتنشط في السودان، ثلاثة توجهات إسلامية تركية، كما يؤكد الدكتور سفيان علي، أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة الخرطوم، أهمها وأكثرها نشاطاً هو توجّه جماعة الخدمة بقيادة فتح الله غولن، والثاني هم مجموعة رسائل النور، وهم مؤيدون للحكومة التركية من أتباع خسرو أفندي، تلميذ بديع الزمان النورسي، والتوجه الثالث يسمى السليماني، وهم فرع من النقشبندية من أتباع العالم التركي سليمان حلمي أفندي.
ويعود وجود جماعة غولن في السودان إلى وقت مبكر جداً، حتى على وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة في عام 2003، إذ أسست حركة الخدمة أول مدارسها في الخرطوم في عام 1999، بعد عام واحد من دخولها إلى مصر وتأسيس أولى مدارسها هناك، ويتابع الدكتور علي موضحاً أن الجماعة لا تنشط فكرياً وثقافياً فقط كبقية التيارات الإسلامية التركية في السودان، بل اتجهت للعمل التعليمي والتجاري والإغاثي.
ووفقا لما وثقه معدا التحقيق، فإن المدارس السودانية التركية، بدأت بمرحلتي الأساسي والثانوي، في مدينة الخرطوم، وأعقب ذلك التوسع غرباً، بافتتاح فرع ثان، لذات المدارس في عام 2011، بمدينة نيالا (عاصمة ولاية جنوب دارفور).
وعقب قرارات 2 أغسطس/آب الحالي، وبعد تأميم مدارس غولن، تم نزع ملصقات جماعة الخدمة والتخلص من كل المنشورات والكتب التي لها علاقة بفكر الجماعة، ويشرح مأمون أحمد، آلية عمل النظام التعليمي في المدرسة قائلاً: "يتم تدريس اللغة التركية ابتداءً من الصف الرابع في مرحلة الأساس، ولترسيخ قواعد اللغة، تنظم المدرسة أولمبياد للغة التركية سنوياً في مدارس غولن السودانية، ويتم اختيار الفائزين لمنافسة نظرائهم من مدارس تنظيم الخدمة من جميع أنحاء العالم والذين يشاركون في أولمبياد بتركيا، وتشمل فعاليات الأولمبياد أنشطة ثقافية ورياضية"، وهو ما يحدث في كل فروع مدارس غولن كما كشفت الأجزاء السابقة من ملف "العربي الجديد".
ويفسر المدير السابق للمستشفى التركي في نيالا، الدكتور مجدي عبيد، استمرار عمل المدرسة على الرغم من تأميم الحكومة لها، بأن جماعة الخدمة اتخذت احتياطاتها قبل ستة أشهر تحسباً لتحركات الحكومة التركية التي سبق أن أرسلت طلبات لعدد من الحكومات في مختلف دول العالم لإغلاق وتجميد أنشطة جميع المؤسسات التي تتبع لجماعة غولن.
ويشرح الدكتور عبيد، طبيعة تلك الاحتياطات قائلا "أعلنت جماعة الخدمة عن نقل تبعية المدرسة التركية في الخرطوم إلى شراكة لمستثمرين سودانيين، مع آخرين أتراك، وأجريت تغييرات كبيرة في هيكلها، وتم تغيير يافطة المدرسة إلى أخرى جديدة"، وهو ما أكده علي أكدوغان الأمين العام لمركز حراء الثقافي، التابع لتنظيم الخدمة، والذي قال لـ"العربي الجديد":"أُغلقت جميع مؤسسات الخدمة في السودان، والمدرسة التركية تم تغيير مجلس إداراتها وتغيير اسمها، وبالتالي صار بإمكانها العمل بعد كل هذه التغييرات".
وحققت المدرسة السودانية التركية، انتشاراً مجتمعياً عبر تنظيم أسواق لبيع المنتجات التركية ضمن مبانيها، الكائنة في حي كافوري شرقي العاصمة الخرطوم، ومن خلال تلك الأسواق التي كانت تقام كل شهرين، تعارفت أسر سودانية وأخرى تركية عديدة، حسب إفادة أكدوغان.
انتشار ثقافي
بالتزامن مع إغلاق المدرسة السودانية التركية، أخطرت وزارة الثقافة السودانية مركز حراء الثقافي التابع لجماعة غولن في الخرطوم، بقرار إغلاقه وجميع فروعه في السودان. وتوجد فروع المركز في ود مدني وسط السودان، وبورسودان (شرق)، ونيالا، وعمل المركز على نشر كتب غولن ومواد صوتية ومرئية له، بالإضافة إلى نشر مجلة حراء تُجلب نسخها من القاهرة، وتستكتب كبار العلماء في السودان، مثل الدكتور عصام البشير، رئيس مجمع الفقه الإسلامي، والدكتور حسن مكي مدير جامعة أفريقيا العالمية السابق، وغيرهما، الأمر الذي حدث قبلا في الجزائر، كما كشف الجزء الثالث من الملف. وتمتلك الجماعة معهد الأناضول لتعليم اللغة التركية، والذي ينافس معهد يونس أمرة الحكومي، مثل ما يقع في مختلف دول العالم التي شهدت وجوداً للجماعة والدولة التركية.
ويؤكد علي أكدوغان الأمين العام لمركز حراء في الخرطوم، أنه "تم إرسال خطاب رسمي من وزارة الثقافة السودانية إلى القائمين عليه، بإغلاق المركز بدعوى اشتغاله بالعمل السياسي"، ونفى أكدوغان هذا الاتهام قائلا لـ"العربي الجديد": "كل من يزور المركز يعرف أننا لا نمارس أي عمل سياسي، دورنا فكري وثقافي وكنا نمارسه بالتعاون مع مراكز سودانية ثقافية مثل مركز التنوير المعرفي ومركز ركائز المعرفة، إذ كنا ننظم منتديات حول فكر الأستاذ فتح الله غولن وغيرها من النشاطات الفكرية والثقافية، كما كان المركز ينظم رحلات للدارسين في مجالات العلوم والتاريخ إلى تركيا، بالاضافة إلى إقامة معارض تراثية وتنظيم معارض للكتب التركية المترجمة للغة العربية". ونفى أكدوغان في الوقت ذاته تلقيه أوامر من قبل السلطات بمغادرة البلاد.
ويتسم النشاط التجاري لتنظيم الخدمة، بالغموض في السودان، إذ يتم وفقاً لنظام شراكات بين مستثمرين سودانيين يبدون في الواجهة، ورجال الأعمال الأتراك المقربين من التنظيم، وحسب ما توصلت إليه "العربي الجديد" فإن المشروعات المشتركة بين الطرفين، تعمل في مجال الصناعة في الخرطوم وبورسودان (صناعة الأثاث ومصانع لإنتاج الطوب)، أما في ولاية الجزيرة، فيعمل المستثمرون الأتراك والسودانيون على استثمارات في الزراعة والإنتاج الحيواني.
نشاط إغاثي لتنظيم الخدمة في السودان
ضمن خصوصية النسخة السودانية من تنظيم غولن، أطلقت الجماعة منظمة كيمسي يوك مو (تعني بالعربية هل هناك أحد؟)، والتي عملت ضمن مشروعات دعم النازحين في معسكرات اللجوء في دارفور، إذ وفرت للطلاب الفقراء فرصة الدراسة في مدارسها الثانوية والأساسية بالسودان، وتكفلت بالمصاريف التعليمية لمن يقبل منهم في الجامعات السودانية في الخرطوم، كما توفر للراغبين منهم فرصة الدراسة في جامعة الفاتح في تركيا (التابعة لجماعة الخدمة)، والتي تتيح فرصة الدراسة باللغة العربية في الدراسات العليا في بعض الأقسام مثل الدراسات الإسلامية والإلهيات واللغة العربية.
وعبر فريقها الطبي أجرت المنظمة، 7 آلاف عملية جراحية في العين (إزالة المياه البيضاء) في دارفور، وشيدت أربعة ملاجئ للأيتام في دارفور، كما قامت بعمليات حفر آبار في القرى وتوزيع أضاحي للمناطق الفقيرة في الخرطوم والولايات أثناء الأعياد.
وحسب أكدوغان فإن منظمة كيمسي يوك مو، جمدت نشاطها في السودان منذ عامين، وهو ما يؤكده الخبير في الشأن التركي والأستاذ في جامعة الخرطوم، طارق محمد نور، الذي قال لـ"العربي الجديد": "لم تعد هذه المنظمة تمتلك أي مكاتب في السودان".
الخدمة في أفريقيا
يعد السودان بوابة أفريقيا التي دخلت من خلالها جماعة الخدمة إلى عمق القارة، إذ تمتلك منظمة كيمسي يوك مائة مدرسة تركية، منها 17 مدرسة في نيجيريا وحدها، بينما تنتشر في دول تنزانيا وكينيا ومالي والصومال والسنغال وجنوب أفريقيا وموزامبيق وغيرها، وتمتلك الجماعة جامعتين في نيجيريا، ويتعلم أبناء النخب السياسية في الدول الأفريقية في تلك المدارس، وتسعى الحكومة التركية إلى إقناع قادة الدول التي تنشط فيها جماعة الخدمة بإغلاق مؤسساتها، التي تعد أحد طرق تمويل المنظمة وانتشارها من بوابة التعليم والتجارة، وفق ما يقوله الدكتور طارق نور، إذ نظمت مؤسسة توسكون (الاتحاد التركي لرجال الأعمال والصناعيين) القريب من غولن، أكثر من 200 زيارة إلى 54 دولة أفريقية، لتعزيز صادرات مؤسسات رجال أعمال أتراك ينتمون إلى الاتحاد.
العلاقة مع إسلاميي السودان
يعتقد المدير السابق لجامعة أفريقيا العالمية والمفكر الإسلامي، حسن مكي، أن أفكار فتح الله غولن دخلت إلى السودان قبل فترة طويلة عبر كتبه، مثل أفكار حسن البنا مؤسس الإخوان، لكنه يرى في الوقت ذاته أن التنظيم لا أتباع له في السودان.
في الاتجاه ذاته، يسير المدير السابق للمستشفى التركي في نيالا، إذ يقول الدكتور مجدي عبيد، إن جماعة الخدمة غير منتشرة وسط السودانيين، باستثناء بعض الطلاب في جامعة أفريقيا العالمية، والذين يتركزون في حيي العمارات واركويت في الخرطوم القريبين من مقر الجامعة، مشيراً إلى توفير الجماعة بيوتاً طلابية تضم هؤلاء الطلاب من السودانيين والأفارقة، بالإضافة إلى طلاب أتراك جاؤوا لاستكمال دراستهم في السودان، وهؤلاء جميعاً يشاركون في حلقات إنشاد صوفي وجلسات ذكر، وتدارس لمؤلفات غولن.
وتستهوي مقارنة ما يجري في تركيا مع السودان، عدداً من المراقبين والنشطاء السودانيين، إذ يرى هؤلاء أن الوضع في تركيا شبيه بأيام المفاصلة الشهيرة بين الزعيم الاسلامي حسن الترابي وحكومة الرئيس البشير، والتي أبعد على إثرها الترابي من السلطة، بعد تحالف عميق بين الرجلين، مثلما وقع في تركيا.
وعلى الرغم من أن جماعة غولن تهدف إلى تغلغل مجتمعي، عبر بوابة التربية والثقافة والتجارة، دون الاهتمام بالعمل السياسي المباشر، فإن الزعيم السوداني الراحل حسن الترابي كانت له وجهة نظر أخرى تتمثل في أهمية الخوض في السياسة باعتبارها جزءاً من حياة الناس، "وحرص الترابي في جميع مقابلاته مع غولن، سواء في الخرطوم أو تركيا على توصيل وجهة نظره تلك"، وفق إفادة مدير مكتب الترابي وقتذاك، عوض بابكر، والذي أكد أن الترابي أوصى رجل الدين الصوفي غولن بأن لا يكتفي بالدور الاجتماعي وأن يخوض في الحياة السياسية. لا يستبعد بابكر في حديثة لـ"العربي الجديد"، أن تكون نصيحة الترابي هي التي شجعت فتح الله غولن على التحالف مع حكومة أردوغان في مرحلة سابقة.
نجاح الحكومة التركية في مواجهة تنظيم الخدمة بالسودان
قبل اندلاع الصراع بين غولن وأردوغان في عام 2013، إثر خلافات حول التعاطي مع القضية الكردية، كانت مشاريع تنظيم الخدمة، محل رعاية من الحكومة التركية التي اعتبرتها جزءاً لا يتجزأ من القوة التركية الناعمة، إلى درجة زيارة رئيس البرلمان التركي السابق جميل جيجك للمدرسة التركية في الخرطوم، لكن مع بدأ الخلاف بين الطرفين، نافست مؤسسات تابعة للحكومة التركية، تلك المحسوبة على غولن، عبر تقديم معونات إنسانية عبر منظمة تيكا لإنشاء مستشفى في دارفور، افتتحه نائب رئيس الوزراء التركي السابق أمر الله إيشلار، بالإضافة إلى المستشفى التركي بضاحية الكلالكة بالخرطوم ومستشفى أنطاليا الذي يقع وسط الخرطوم.
ودخلت مؤسسة تنمية وتعاون تركيا، التابعة لمجلس الوزراء، مجال الاستثمار في السودان عبر تبنيها عدداً من المشاريع التنموية الضخمة بولاية الجزيرة، كما صرح فرات كوكو، مدير مكتب رجال الأعمال والصناعيين الأتراك في السودان لوكالة الأناضول التركية عن نية بلاده زيادة استثماراتها في السودان إلى 6 مليارات دولار بدلا من ملياري دولار في الوقت الحالي، وهو ما دعا الحكومة السودانية إلى التضحية بجماعة الخدمة، كما يرى الدكتور عبيد.