على مدار الأعوام الخمسة الماضية، اختارت الأربعينية المصرية يسرية العبد، إلحاق نجليها بمدارس صلاح الدين الدولية في محافظة بني سويف، جنوب القاهرة، إذ ذاع صيت تلك المدارس التركية في أنحاء المحافظة، خصوصاً بعد زيارات عديدة قام بها الشيخ علي جمعة مفتي الديار المصرية الأسبق للمدرسة التي تبعد 120 كيلومتراً عن العاصمة المصرية.
اختارت يسرية القريبة من أفكار الإسلاميين المصريين تلك المدارس، بسبب التزامها بما تسميه "القيم الدينية التربوية"، بالإضافة إلى تنظيم رحلات للطلاب إلى تركيا وأوروبا ضمن معسكرات صيفية، غير أن شعوراً عميقاً بالقلق يساورها حول مستقبل ولديها، منذ الانقلاب الفاشل في تركيا في 15 يوليو/تموز الماضي.
الشعور بالقلق من كون مدارس صلاح الدين، مرتبطة بالداعية الصوفي، فتح الله غولن، المُتّهم الرئيسي بتدبير المحاولة الانقلابية الفاشلة، يسيطر كذلك على ماجدة التهامي، التي يدرس ابنها في المرحلة الابتدائية بفرع المدرسة في القاهرة، إذ تتجه خلال الفترة المقبلة لسحب أوراق نجلها من المدرسة التي تتميز بـ"التفوق التربوي وغرس القيم الدينية والأسعار المناسبة"، من أجل التقدم بها إلى مدرسة خاصة أخرى "لا تشوّه سمعتها السياسة"، كما تقول.
المدارس درّة إمبراطورية غولن المصرية
حسب الموقع الإلكتروني، لوكالة "جيهان التركية" للأنباء، المقربة من فتح الله غولن، والتي فرضت الدائرة السادسة لمحكمة الصلح والجزاء في إسطنبول الحراسة القضائية عليها في مارس/آذار الماضي، فإن "سلسلة المدارس التي انطلقت في مصر منذ عام 1998 تحت إشراف الدولة المصرية، توسعت في عام 2009 لتصبح سلسلة ممتدة في محافظات القاهرة والإسكندرية وبني سويف، ويمتلكها رجال أعمال أتراك منتمون لحركة "الخدمة"، أبرزهم أورهان كسكين، المنسق العام لشركة "أفق" التعليمية، المسؤولة عن تأسيس سلسلة المدارس، وبكير جول، مؤسس دار النيل للنشر، ونوازد صواش، المُشرف العام على مجلة "حراء".
ويقيم أورهان كسكين المنسق العام لشركة أفق، في العاصمة المصرية، منذ نهاية التسعينيات، ويعتقد رجل الأعمال المقرب من "الأستاذ غولن"، كما يطلق عليه، والذي التقاه مرات عدة في منفاه الاختياري بالولايات المتحدة الأميركية، أن "ما يعيشه أتباع الحركة سواء داخل تركيا أو خارجها محنة تستحق الصمود أمام ما يواجهونه من اتهامات كاذبة".
وبحسب كسكين، فإن "مدارس صلاح الدين افتتحت أول فروعها خلال فترة الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، غير أن القلق ساور القائمين على مشاريع حركة الخدمة في مصر، في فترة الرئيس السابق محمد مرسي، بسبب العلاقات القوية للإخوان المسلمين مع حزب العدالة والتنمية التركي، فيما تم إنشاء أحدث فرع للمدارس في عهد الرئيس عبدالفتاح السيسي الذي شهدت مشاريع رجال الأعمال الأتراك المقربين من غولن استقراراً في عهده، إذ يدعم عمل تلك المدارس الدكتور علي جمعة، مفتي الديار المصرية الأسبق الذي يشغل عضوية مجلس الأمناء لهذه المدارس، والشيخ أحمد الطيب الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر، وغيرهم من كبار العلماء".
ووفقاً لما وثقه معد التحقيق، فإن أغلب معلمي مدارس صلاح الدين من المصريين، يليهم الأتراك في المرتبة الثانية، وتعد الإنكليزية لغة الدراسة إلى جانب اللغة العربية، ويؤكد كسكين، رجل الأعمال المقرب من غولن، أن 70% من طلاب مدارس صلاح الدين من المصريين، و20% من الأتراك، و10% من جنسيات أخرى. وتابع كسكين أن عدد طلاب كل فرع من فروع المدرسة في القاهرة والإسكندرية يقدر بنحو 600 طالب، يدرسون في جميع مراحل التعليم، بينما يصل عدد طلاب فرع مدرسة بني سويف إلى 500 طالب.
وتستهدف مدارس صلاح الدين أبناء الطبقات المتوسطة وما فوق المتوسطة من المصريين، إذ تبدأ مصروفات الدراسة من مرحلة الحضانة بسعر يصل إلى 33 ألف جنيه ( 3700 دولار أميركي وفقاً للسعر الرسمي للجنيه في مقابل الدولار)، وتنتهي المصروفات عند مرحلة الثانوية العامة إلى 70 ألف جنيه (7900 دولار) بفرعي القاهرة والإسكندرية، بينما تنخفض تكاليف فرع المدرسة في محافظة بني سويف التي تنخفض ظروف أهلها المعيشية عن القاهرة والإسكندرية، لتتراوح بين 6 آلاف إلى 10 آلاف جنيه (697 إلى 1132 دولاراً) حسب كُل مرحلة، في المدارس التي افتتحت في عهد السيسي في بني سويف، وهو يطابق ما كشفته حلقات الملف السابقة، عن استهداف مؤسسات غولن التربوية، أبناء النخبة في كل بلد تعمل فيها، بينما تعمل على تقديم منح للطلاب الأفقر من النابغين، وهو ما تحول إلى تخفيض للمصروفات في محافظة بني سويف التي تعتبر من أفقر محافظات مصر، إذ تأتي في المركز الثاني من حيث عدد الفقراء الذين تصل نسبتهم إلى 53.2% منهم 20.2% لا يجدون قوت يومهم، وفقاً لتقرير التنمية البشرية الصادر عن مجلس الوزراء المصري في نهاية عام 2013، وتقرير التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة في عام 2009.
أولمبياد الخدمة
اعتادت مدارس صلاح الدين التركية، تنظيم رحلات إلى تركيا للطلاب المتفوقين من كل مدارسها في مصر منذ عام 2004، كما يقول المدرّس المصري يوسف يسري، الذي عمل لثلاثة أعوام بمدارس صلاح الدين في القاهرة.
ويوضح يسري أن "الرحلة تشمل المشاركة في فعاليات أولمبياد ثقافية ورياضية، يشارك فيها طلاب مدارس غولن من جميع أنحاء العالم"، متابعاً:" يقيم الطلاب في بيوت طلابية ومعسكرات تابعة لحركة الخدمة التركية، بينما يتم تنظيم دورات تعليمية داخل مركز تعليمي يُدعي "الكورفيز" والذي يعد إحدى المؤسسات التعليمية التي تستلهم فكر الأستاذ محمد فتح الله غولن"، كما تعرّفه وكالة أنباء جيهان المعبرة عن حركة الخدمة التركية.
وفي فترة سابقة، وقبل وقوع الشقاق بين أردوغان وغولن، شارك طلاب مدارس صلاح الدين إلى جانب نظرائهم من جميع أنحاء العالم في لقاءات للطلاب مع رؤساء الأحياء المقربين من حركة الخدمة في تركيا، كما يقول يسري. ويتابع أن الفارق الأساسي، بين مدارس صلاح الدين وغيرها من المدارس الدولية العاملة في مصر هو "فرض عدد من الضوابط الإسلامية مثل منع تدخين السجائر، واقتصار الاختلاط بين البنين والبنات على المرحلة الابتدائية فقط"، على حد قوله.
العرّاب
تجوّل معد التحقيق داخل فرع مدارس صلاح الدين في منطقة التجمع الخامس، أحد الأحياء الراقية في العاصمة المصرية، ورصد انتشار المدرسين الأتراك داخل المدرسة المزوّدة بسينما 3D، وغرف دراما، ومعامل حاسب آلي، ومصلى، بينما تنتشر مجلات "حراء" على أغلب مكاتب المدرسين المصريين والأتراك، في المدرسة التي لا يزيد عدد الطلاب في فصولها على العشرين، في الوقت الذي يصل فيه متوسط الكثافة في المدارس المصرية إلى 40 طالباً، بحسب إحصائيات وزارة التربية والتعليم الصادرة خلال العام الماضي.
وبحسب موقع مجلة "حراء"، فإن مدارس صلاح الدين، تنظم سلسلة حوارات دورية بين طلاب المدرسة والشيخ علي جمعة، على مدار العام، ويتضمن الأمر حواراً خاصاً في شهر رمضان يتحدث فيه جمعة مع عدد من طلاب المدرسة عن فضائل الشهر، وأهمية المدارس التي يدرسون فيها، وأهمية مناهج التدريس، كما يضم الموقع صوراً لجولات جمعة في عدد من فروع المدارس في المحافظات المختلفة برفقة عدد من مسؤولي الدولة الذين يصاحبونه خلال هذه الزيارات.
ويقطن المدرسون الأتراك في مبني سكني مُجاور لمبنى الفصول الدراسية، وتنشر صور مشاركة علي جمعة، مفتي الديار المصرية السابق وعضو مجلس الأمناء، في فعاليات المدرسة المختلفة واحتفالياتها، إلى جانب الإمام الراحل للجمعية الشرعية لتعاون العاملين في الكتاب والسنة المحمدية محمد المختار المهدي، عضو مجمع البحوث الإسلامية وهيئة كبار علماء الأزهر، والدكتور زغلول النجار الداعية الإسلامي والدكتور محمد عمارة عضو مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر أحمد عمر هاشم رئيس جامعة الأزهر السابق. وتنشط المدرسة في تنظيم أنشطة خيرية يشارك فيها الطلاب الذين يقومون بتجهيز مساعدات لتوزيعها على الفقراء، في رمضان.
دعوى قضائية طالبت بإغلاق مدارس غولن
في أوائل عام 2014 أقام سمير صبري، المحامي بالنقض والدستورية العليا، دعوى مستعجلة ضد رئيس مجلس الوزراء ووزير التربية والتعليم، يطالب فيها بسحب تراخيص المدارس التركية في مصر "التي اتهمها بأنها تابعة للتنظيم الدولي للإخوان"، إثر حملة شنتها مواقع إخبارية قريبة من جهاز الأمن الوطني على المدارس، وعلى رأسها موقع "البوابة" الذي يديره عبدالرحيم علي.
ورفض صبري التعليق على أسباب إقامته دعواه، قائلاً في تصريحات إلى "العربي الجديد": "الدعوى كانت في مرحلة معيّنة، والأوضاع تغيّرت الآن".
ويعلق طارق طلعت، مدير الإدارة العامة للتعليم الخاص، في وزارة التربية والتعليم على الدعوى القضائية قائلا لـ"العربي الجديد": "فحصنا شكاوى بعض أولياء الأمور، وشكوى صبري، والتي زعمت أن المدرسة تتم فيها طقوس خاصة تختلف عن بقية المدارس، كترديد نشيد غريب غير مفهوم، وأن عدداً كبيراً من طلاب المدرسة من أسر "إخوانية"، وعدم تدريس اللغة العربية، موضحاً أنه بعد فحص لجنة من وزارة التربية والتعليم هذه المدارس، تبين أن ما تضمنته شكوى صبري، غير حقيقي، وهو ما دفع الوزارة لرفع الإنذارات التي كانت قد قامت بها ضد مدارس صلاح الدين.
دار نشر وشركات تجارية وجمعيات لرعاية الطلاب الأتراك
يعد مركز النيل للثقافة والفنون في القاهرة، واحدًا من مراكز التغلغل والانتشار الخفية لتنظيم الخدمة في مصر، حسب شهادة أدلى بها الشاب المصري أيمن شاهين الذي سعى في عام 2014 إلى الالتحاق بمركز يونس أمرة (المركز الثقافي التركي الحكومي) لتلقي دورات لتعليم اللغة التركية، غير أنه لم يوفّق، ولم يجد أمامه سوى مركز النيل التابع لغولن.
يقول أيمن "خلال أربعين يوماً كان مدرّس اللغة في المركز لا يتحدث سوى عن فتح الله غولن، ومكانته كعالم ربّاني، مؤكدًا في كل يوم ضرورة قراءة مجلة "حراء" في أوقات الاستراحة".
مصادفةً، كان يوم ميلاد أيمن قد اقترب، وفوجئ بهدية من المركز عبارة عن كتاب النور الخالد محمد (صلى الله عليه وسلم)، من تأليف فتح الله غولن، ويواصل أيمن قائلا "المدرّس كان يتحدث كثيراً عن دور جماعة الخدمة الكبير في تعليم الطلاب غير المقتدرين".
ويقول محمد عفان، الباحث في العلوم السياسية، ومدير مركز التدريب بمنتدى الشرق في إسطنبول إن "حركة غولن تعتمد على التعليم والإعلام بشكل أساسي في دعوتها"، لافتاً إلى أنها أقرب للحركات للصوفية منها لجماعات الإسلام السياسي، موضحاً أن نجاحها وانتشارها في المنطقة العربية محدود بخلاف مناطق أخرى مثل آسيا الوسطى وأوروبا، وأضاف عفان أن الحركة متهمة بأنها باطنية، تسعى من وراء أنشطتها لتمكين أتباعها في مناصب رفيعة، وتشكيل مركز ضغط قوي داخل مؤسسات الدولة العميقة في كل مكان تنتشر به، وعلى رأسها تركيا.
ويؤكد يوسف عادل، الباحث بمركز الدراسات السياسية التركية في القاهرة، أن أنشطة الحركة داخل مصر تشمل كذلك دار النيل للنشر، التي تأسست داخل مصر عام 2000 لتتولى نشر وتوزيع مجلة "حراء"، وطبع كتب "فتح الله غولن" داخل مصر، إلى جانب شركات تجارية ومراكز ثقافية لتعليم اللغة العربية، وجمعيات لرعاية الطلاب الأتراك من مريدي الحركة الذين يدرسون في الجامعات المصرية والأزهر الذين لجأ بعضهم إلى البقاء في مصر، بعد تضييق السلطات التركية على أتباع الحركة، إثر الصراع الدائر بين الرئيس التركي أردوغان وزعيم الخدمة غولن.
وتعد دار النيل للنشر، واحدة من المؤسسات التابعة لمجموعة "قايناق" التركية والتي تصدر نحو 30 مجلة بمختلف اللغات، وتضم المجموعة 40 دار نشر متخصصة أخرى، وتصدر الدار مجلة "حراء" من مصر إلى الجزائر، كما كشف الجزء الثالث من الملف. وحسب ما جاء على الموقع الإلكتروني لمجلة "حراء"، فإنها مجلة علمية دينية، تصدر عن مؤسسة قايناق التركية، وتضم عدد من أبرز الكُتاب فيها علي جمعة، وأحمد الطيب، شيخ الأزهر الحالي، وأحمد عُمر هاشم، رئيس جامعة الأزهر السابق، والداعية الإسلامي المعروف زغلول النجار.
ويؤكد الباحث عادل أن موقع "زمان" الذي يصدر بأكثر من لغة، منها العربية والتابع لحركة الخدمة، انتقل مقره من إسطنبول إلي برلين مؤخراً، موضحاً أن هذه المؤسسات جميعا تسعى للترويج لأفكار غولن، بنشر مقالات وترجمات لكُتبه، واستكتاب كُبار رجال الدين في مصر "لدعم منظومته، وعلى رأسهم الشيخ علي جمعة، في محاولة جذب منتمين للحركة".