بعد استهدافات عديدة لمحيط المستشفى الإندونيسي الحكومي في شمال قطاع غزة، ومحيط مستشفى القدس التابع لجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني في منطقة تل الهوى، قصفت طائرات الاحتلال، عصر الجمعة، محيط البوابة الشرقية لـ"مستشفى الشفاء"، ما خلف استشهاد وإصابة عشرات من النازحين والأطقم الطبية، كما دمرت سيارتي إسعاف، ليبلغ مجموع ما دمره الاحتلال منذ بداية العدوان 57 سيارة إسعاف بحسب وزارة الصحة في غزة، فضلاً عن استشهاد 150 من أفراد الطواقم الطبية.
كان من بين الشهداء أطفال وعاملون في القطاع الطبي، والصحافي هيثم حرارة من طاقم المكتب الإعلامي الحكومي الذي يرصد الانتهاكات الإسرائيلية بحق المدنيين والمنشآت، ومن بين المصابين مسعفون وعناصر من الدفاع المدني.
وزادت المجزرة من مخاوف آلاف النازحين المرابطين في محيط أكبر مجمع طبي في قطاع غزة أملاً في الحصول على بعض الأمن، ورغم إصابة بعضهم في القصف، إلا أن أحداً منهم لم يغادر المنطقة، وعادوا إلى خيامهم التي نصبوها داخل مرافق المستشفى وحولها.
كان محمد عرفات أحد شهود المجزرة، وقد نزح برفقة أسرته من حي الشيخ رضوان قبل أسبوع. عندما خرج، سمع صوت الانفجار ولم يصدق أذنيه، لكن بعض أصدقائه كانوا من المصابين، وكانت الدماء متناثرة في كل مكان. أصيب عرفات (29 سنة) بصدمة كبيرة بعد القصف، ويقول: "تعرضت إحدى السيدات التي كانت ترافقني في الصباح لجلب الخبز لأطفالها لإصابات خطيرة، بينما كان يجرى علاجها في باحات المستشفى، طلبت مني جلب أولادها من الخيمة الشمالية، وقالت لي أسماءهم، كانت تريد أن يطمئنوا عليها".
يضيف عرفات لـ"العربي الجديد": "أجساد وملابس الناس كانت ملطخة بالدماء، وكان من بين المصابين رجل بدين، فلم نستطع حمله، واضطررنا لجره بصعوبة لنقله للعلاج، لكنه لفظ أنفاسه الأخيرة، وطفل مصاب لم يكن يستطيع التنفس، لكن تمكن الأطباء من إنقاذه. كنت أنظر إلى كل الاتجاهات، ولا أعرف إلى أين نهرب، فالموت يحاصرنا من كل مكان، ولا مكان نذهب إليه، فقررنا البقاء في محيط المستشفى".
ويحاول الاحتلال الإسرائيلي فصل الجزء الشمالي من قطاع غزة حتى حدود مدينة غزة عن مناطق وسط وجنوبي القطاع من خلال القصف المكثف وتقدم مركباته العسكرية، فضلاً عن استهداف السيارات القادمة من شارع صلاح الدين، أو من شارع الرشيد المطل على شاطئ البحر، ما يدفع النازحين إلى البقاء في أماكنهم كون طريق النزوح شديد الخطورة.
قرر نازحون البقاء في محيط مجمع الشفاء خشية فقدان الماء والطعام
نزح أحمد موسى (23 سنة) مع أسرته من أبراج المخابرات التي قصفها الاحتلال قبل أكثر من أسبوعين، واستقروا في محيط مجمع الشفاء الطبي مع كثير من الجيران وبعض الأقارب، وقد أصيب خلال القصف، إذ كان موجوداً بالقرب من البوابة، وكان يحمل زجاجة ماء تمكن من الحصول عليها.
يقول موسى لـ"العربي الجديد": "لا يزال المستشفى بالنسبة لنا مكاناً آمناً رغم التهديدات. عندما حصلت المجزرة، شعرت أنني سأموت، وقد استشهد خمسة من أصدقائي المقربين بالفعل، وكلما نمت أراهم في احلامي. كنت أرغب في النزوح مجدداً بعيداً عن المستشفى، لكن والدي أخبرني أنه لا يوجد مكان آمن، وإن ذهبنا إلى مكان آخر ربما نموت أيضاً، فقررنا البقاء، وإن متنا نموت معاً".
وقرر بعض النازحين البقاء في محيط مستشفى الشفاء خوفاً من مخاطر انقطاع الماء والطعام، خصوصاً من لديهم أطفال صغار، إذ يُمنحون بعض الطعام الخاص بمرافق المستشفى، والذي توفره جمعيات خاصة أو مبادرات تطوعية، ويعتقدون أنهم لو نزحوا إلى أماكن أخرى فيمكن أن يتعرضوا للجوع والعطش، مع تكرار الأخبار المتواترة حول طوابير المياه وصعوبة تأمين الطعام.
وتواصل بعض محال البقالة القريبة من مستشفى الشفاء العمل، كما يقوم بعض البائعين المتجولين بالمرور على النازحين لبيعهم البسكويت والشكولاتة والمشروبات الساخنة والغازية.
يؤكد عمر أبو سيف أن "البقاء في محيط المستشفى سببه توفر الماء بشكلٍ أساسي، حتى لو كان معظمه من مصادر غير نظيفة"، ويقول لـ"العربي الجديد": "إلى أين أرحل الآن؟ أنا هنا أنتظر الموت، وكل حضارات العالم قامت بالقرب من الماء، وفي المستشفى يوفرون لنا القليل من الماء، وهذا أفضل من الذهاب للجنوب الذي يفتقر سكانه إلى الماء. يوجد موت هنا وموت هناك، لكن لو متنا هنا يمكن أن يضعوني في ثلاجة الموتى، وأدفن بكرامة، أما في الجنوب فيمكن أن أموت وأبقى تحت الأنقاض".
وتلقت إدارة مجمع الشفاء الطبي على مدار الأسبوعين الماضيين تهديدات من الجيش الإسرائيلي تطالبها بإخلاء المستشفى، وتهدد بقصفه، وهو ما استقبلته الإدارة بالرفض التام باعتبار أن المجمع الطبي هو الشريان الأساسي للقطاع الطبي في كافة مناطق قطاع غزة.
توقف 16 مستشفى من أصل 35 عن العمل من جراء القصف الإسرائيلي
ويوضح مدير مجمع الشفاء الطبيب محمد أبو سلمية أنه في ظل توقف 16 مستشفى من أصل 35 عن العمل من جراء القصف الإسرائيلي أو نفاد الوقود، فإن الضغط يزيد على مجمع الشفاء الطبي، ويضيف لـ"العربي الجديد": "مستشفى الشفاء هو مركز طوارئ رئيسي لكل قطاع غزة، لكن قدرات المستشفى على البقاء مفتوحاً وقادراً على القيام بمهامه وتقديم خدماته تتقلص، فالمولدات الثانوية التي جرى تشغيلها لا تكفي إلا لتشغيل ثلاثة أقسام رئيسية حساسة، وما زلنا نحذر من كارثة إنسانية قد تحدث خلال الساعات القليلة القادمة من جراء توقف مولدات الكهرباء الرئيسية بسبب نفاد الوقود".
ويشير المتحدث باسم وزارة الصحة في غزة أشرف القدرة إلى أن أكثر من 50 ألف مواطن نزحوا إلى ساحات مستشفيات قطاع غزة باعتبار أنها أماكن آمنة، أو لظنهم أنها ستكون أكثر أمناً من الأماكن الأخرى. ويتابع: "حصلنا على موافقة على استقبال عدد من الجرحى في المستشفيات المصرية، وأبلغنا الأمم المتحدة والصليب الأحمر الدولي، وكانت القافلة تتجهز، وفوقها طائرات استطلاع تتابع تحركها، وفجأة قصفت القافلة مرتين، إحداهما على بوابة مجمع الشفاء. يعلم الاحتلال بوجود نازحين في المجمع، وأن أي استهداف قريب سيوقع عدداً كبيراً من الضحايا، وكل العالم يعرف أزمة مجمع الشفاء الطبي، فلماذا الاستهداف بشكل مباشر؟".
يوضح القدرة لـ"العربي الجديد" أن "الاحتلال الإسرائيلي أنكر في عدة جرائم سابقة مسؤوليته عنها، كما حصل عندما قتل الصحافية شيرين أبو عاقلة، متهماً الفلسطينيين بقتلها، قبل أن يعترف لاحقا بقتلها عن طريق الخطأ، وكذلك في قصف المستشفى المعمداني، لكن سرعان ما فُضح أمرهم في تحقيقات داخلية ومن وسائل إعلام عالمية، لكنه يستمر في الاعتداء على الطواقم الطبية، وقتل النازحين والمدنيين أمام العالم".
أنشئ مستشفى دار الشفاء في عام 1946، في عهد الاستعمار البريطاني، وكان عبارة عن عيادات صغيرة تقدّم الرعاية الصحية الأولية، واستمر في العمل إلى حين تولى المصريون إدارة المستشفى عندما كان قطاع غزة تابعاً للادارة المصرية ما بين نكبة 1948 إلى نكسة 1967، ثم أصبحت سلطات الاحتلال تتحكم في كل مؤسسات القطاع، وكانت تقوم في بعض الأوقات باقتحامه لاعتقال مصابين.
بعد إنشاء السلطة الفلسطينية، تسلمت في عام 1994 إدارة المستشفى، وموّلت الحكومة اليابانية ودول أوروبية ومنظمات إنسانية تطويره، وجرى إنشاء مبانٍ جديدة، وتوسيع الغرف القديمة لتتسع لعدد أكبر من الأسرّة، وافتتاح اقسام جديدة، ليصبح أكبر مجمع طبي في قطاع غزة، ثم يتحول المستشفى إلى أهم معلم طبي في القطاع، ويرتبط بجميع الأحداث التي شهدها، حتى إن اسم المجمع بات شاهداً على الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة، وتكرار اعتداء الاحتلال على القطاع، والحصار المتواصل منذ 17 عاماً.
استقبل مجمع الشفاء جرحى كل عدوان إسرائيلي على غزة، وجرحى مسيرات العودة الكبرى، واستقبل وفوداً طبية من مختلف دول العالم كونه أكبر صرح طبي في القطاع المحاصر، وشارك أطباء وجراحون من مختلف دول العالم في إجراء عمليات جراحية كبيرة داخله، بالتنسيق مع منظمات دولية مثل أطباء بلا حدود، ومنظمة الصحة العالمية.
ويضمّ المجمّع نحو 1900 موظف، وهو أكبر عدد من الكوادر الطبية في القطاع، وما نسبته 30 في المائة من مجموع العاملين في مستشفيات وزارة الصحة في غزة، ومن بين هؤلاء 503 أطباء في مختلف التخصصات، و765 ممرّضاً، و35 صيدلانياً، ونحو 200 إداري.