- طوابير طويلة أمام المخابز تعكس الحاجة الماسة للغذاء، حيث انتظر الناس ساعات للحصول على الخبز في ظروف أمنية مشددة.
- القصص الإنسانية للأفراد في الطوابير تبرز الأثر العميق للأزمة على حياتهم، مؤكدة على الصمود والأمل في وجه الحرب والحصار.
للمرة الأولى منذ أشهر، وفي ظل الحصار والإبادة والتجويع التي فرضها الاحتلال الإسرائيلي على شمال قطاع غزة تناول أهالي الشمال الخبز وشعر الأطفال بالشبع، بعدما اضطروا إلى تناول خبز مصنوع من علف الحيوانات.
بعد طول انتظار، بات يمكن للغزيين في شمال قطاع غزة تناول الخبز بعد الويلات التي عانوها جراء الجوع والعطش والحصار، وذلك من مخبز عجور الكبير في حي التفاح شرق مدينة غزة، الذي حصل على إذن للعمل. وزُوّد الأخير عبر برنامج الأغذية العالمي بالدقيق (تم تزويد مخبزين آخرين لكن لم يبدأ العمل فيهما بعد) ولوازم الخبز بعد انقطاع دام أكثر من خمسة أشهر، حين خرج عن الخدمة ومعه معظم مخابز قطاع غزة.
وساهم برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة في إعادة عمل ثلاثة مخابز في مدينة غزة، وذلك لأول مرة، منذ توقفها بسبب القصف الإسرائيلي الذي طاول غالبية المخابز بالمدينة.
يمتد طابور انتظار الخبز حوالي 300 متر، وغالباً ما تكون ساعة الذروة عند الساعة 12 ظهراً. ووصل عدد الناس في الطابور إلى حوالي الألف. كان كل شخص ينتظر إحضار الخبز لعائلته والنازحين في البيوت المتضررة أو المدارس التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" أو تلك الحكومية حيث يوجدون بكثرة في الوقت الحالي بعد الانسحاب الإسرائيلي من أجزاء كثيرة من المنطقة الشمالية.
ويحصل الغزيون في المنطقة الشمالية على كيس خبز بيتا، أي ربطة خبز تزن كيلوغرامين و700 غرام، علماً أنه كان يزن ثلاثة كيلوغرامات قبل بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. ويعمل المخبز من الساعة الثامنة صباحاً وحتى السادسة مساءً وسط ظروف أمنية لا تزال مفروضة على المنطقة من قبل الاحتلال الإسرائيلي.
إنجاز وحسرة
كان محمد عواد (36 عاماً) أحد الواقفين في الطابور، وقد انتظر حوالي ثلاث ساعات واعتبر نفسه من المحظوظين بعد حصوله على كيس الخبز. جميع من في الحي الذي يقيم فيه بمنطقة الجلاء بمدينة غزة خرجوا مسرعين على عربات تجرها حيوانات وآخرون على شاحنات كبيرة لتأمين الخبز. يقول إنه حين حصل على الخبز، شعر بحسرة وإنجاز في وقت واحد.
يقول عواد لـ "العربي الجديد": "كأنني أحمل هدية عظيمة. حين وصلت إلى الشارع، كان الناس يباركون لي لحصولي على ربطة الخبز. نعم، لها قيمة كبيرة بعد صمود أسطوري والدماء التي قدمناها. لكن الحسرة لا تزال موجودة. صمت المجتمعات الدولية والصمت العربي أمام حرب مستمرة جعلا أقسى أمانينا رغيف الخبز، علماً أنه أحد الحقوق الأساسية، وبتنا مجرد أدوات تصارع من أجل تلك الحقوق".
يضيف: "بكيت لأنني تناولت الخبز، وقد شبع طفلاي لأول مرة منذ خمسة أشهر. شعرا بأن شيئاً غريباً جداً يدخل جسديهما. سمعت تعليقاتهما وانهرت بالبكاء نحن الذين كنا نصنع الخبز والمعجنات طوال الوقت في يومياتنا. أما اليوم، فنشتهي القليل منه فقط. يجب أن تقف الحرب ونعود لحياتنا. يريد طفلاي تناول مناقيش الزعتر والزيت بمجرد انتهاء العدوان".
ويشير عواد إلى أن طفله صقر البالغ من العمر أربع سنوات كان يعاني من الجفاف وسوء التغذية في ظل قلة توفر المياه الصالحة للشرب والخبز. بكى حين عاد إلى طفله حاملاً الخبز. كان يعتقد أنه نسي طعمه أو شكله، لكنه طلب منه إضافة الشوكولاتة إلى الخبز، لكنه وضع الجبنة من نوع فيتا بدلاً من الشوكولاتة بهدف تغذيته.
النساء أيضاً يقفن في طوابير إلى جانب الرجال. بين هؤلاء من فقدن أزواجهن جراء العدوان، وبتن مسؤولات عن رعاية وإعالة عائلاتهن. استشهد زوج فايزة أبو سرحي (40 عاماً) وشقيقه ووالدهما المسن وهم بالقرب من مقبرة حي التفاح شرق مدينة غزة، وباتت مسؤولة عن إعالة أبنائها الخمسة. توضح أن السعادة كبيرة لدى المواطنين في شمال قطاع غزة بعد إعادة افتتاح مخبز في تلك المنطقة وتناول الخبز لأول مرة منذ أشهر. وتأمل أن تفتح بقية المخابز لتخف الطوابير ويحصل الجميع على الغذاء، هي التي اضطرت إلى الانتظار ساعتين ونصف الساعة لشراء ربطة خبز بقيمة خمسة شواقل (1.34 دولار)".
تقول أبو سرحي لـ "العربي الجديد": "أعددت طبقاً من الخضار، ويتكون من الباذنجان وصلصة الطماطم والبصل والبطاطس، وهذه المرة الأولى التي أعد فيها هذا الطبق في حياتي. لكن من فرحتي، أريد إعداد أي طعام متوفر مع الخبز. عمد أطفالي إلى تصوير المائدة والخبز. كانت لحظات جميلة بالنسبة لنا، وقد أعربوا عن فرحتهم ودعوا الله أن تنتهي هذه الحرب، فقد خسروا والدهم وعمهم وجدهم". تضيف أن "العديد من النساء اللواتي عدن مع الخبز كن يبكين. نحن في منطقة شرق مدينة غزة تعرضنا لإبادة كبيرة، وقد فقدت كثيرات رجالهن واعتقل بعضهم أو فقدوا. أصبحت المرأة تتولى كل الأدوار". تضيف: "على الرغم من كل الألم وخسارة الأحباء، نحن على هذه الأرض باقون ولن يضيع حقي وحق زوجي وعائلتي".
الرغيف الأطيب
لم ينتظر تامر شاهين (29 عاماً) الوصول إلى المنزل. بمجرد حصوله على كيس الخبز، فتحه وتناول رغيفاً إذ أراد أن يتذكر طعمه. قال إن طعم هذا الرغيف هو الأطيب في حياته. بدا وكأنه يغازل الرغيف، واصفاً إياه بالطازج والطري. يقول إن البعض انتظر ما بين ساعتين وخمس ساعات للحصول على الخبز، وقد قدم الناس من جميع المحافظات ومناطق تجمعات النازحين. يكرر حديثه عن السعادة التي شعر بها حين أمسك الخبز، وراح يتذكر ما اضطروا إلى تناوله خلال الأشهر الماضية للبقاء على قيد الحياة، كالخبز المصنوع من علف الحيوانات. لكن بعد كل تلك المعاناة والصبر، أمسك خبزاً طازجاً في يده.
يتذكر شاهين المعاناة التي عاشها بسبب الجوع والعطش خلال الأشهر الماضية. في بعض الأحيان، يشير إلى اضطراره لتناول أوراق الأشجار التي كانت موجودة في أحد المنازل أثناء حصارهم في حي الرمال، لافتاً إلى أنه نزح من حي إلى آخر وسط مدينة غزة. بالإضافة إلى الجوع، عانى كثيراً من العطش، وقد اضطر في النهاية إلى شرب مياه ملوثة. وصار يحلم بالأكلات التي يشتهيها أثناء النوم.
يقول شاهين لـ "العربي الجديد": "كان الجوع قاسياً إلى درجة كبيرة. وحاولت التغلب عليه من خلال تناول أي شيء، لأسدّ الألم الذي كنت أشعر به في معدتي". كما يذكر أنه أصيب في يناير/ كانون الثاني الماضي حين ذهب إلى شارع الرشيد للحصول على الطحين. "لكن لحسن حظي، فإن الإصابة كانت خارجية ولم تصل شظايا الصاروخ إلى جسدي. يومها خسرت صديقي عصام الرفاعي".
يضيف: "عندما عدت إلى المدرسة التي انتقلنا إليها بعد الانسحاب الإسرائيلي من مجمع الشفاء الطبي، أمسكت والدتي بالخبز وكانت تدعو الله ألا نحرم منه مجدداً. بدت وكأنها تتحدث إلى طفلها. رغيف الخبز بالنسبة لنا شيء مقدس في غزة. بعدما كنا نخبِز في منازلنا، بات إعداده اليوم صعباً في ظل النقص الكبير في كل المواد وانقطاع الكهرباء وغير ذلك".
كانت المخابز المنتشرة في قطاع غزة قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي تعد من أهم مقومات الغذاء اليومية للغزيين. وكانت ضمن الأهداف الرئيسية لجيش الاحتلال. ومنذ الأسبوع الأول لبدء العدوان، تعمد استهداف عدد منها وارتكاب مجازر في حق الغزيين الذين كانوا ينتظرون دورهم في الحصول على الخبز.
وبحسب المكتب الإعلامي الحكومي في منتصف مارس/ آذار الماضي، فإنّ من بين 140 مخبزاً كانت تعمل في مختلف محافظات قطاع غزة قبل العدوان الإسرائيلي، تعمل ثمانية منها فقط في الوقت الحالي في المنطقة الجنوبية، وتعتمد على برنامج الأغذية العالمي في تزويدها بالدقيق. لكن بدأ عدد منها يعود للعمل منذ بداية الشهر الحالي.
وتجاوز عدد المخابز التي استهدفتها قوات الاحتلال الإسرائيلي أكثر من 80 مخبزاً، منها دمر كلياً وأخرى جزئياً، مع تدمير الأفران الكبيرة فيها. وتقول مصادر لـ "العربي الجديد" إنه تجري في الوقت الحالي تقييمات لدى برنامج الأغذية العالمي لبعض المخابز الأخرى في المنطقة الشمالية من أجل إعادة إحياء بعضها والعمل فيها، بهدف الحد من الازدحام أمام المخبز الوحيد في الشمال.