أثارت تصرفات الحكومة العسكرية في مالي، قلقاً أوروبياً، بدءاً من طرد السفير الفرنسي، مروراً بطرد القوات الدنماركية الخاصة، وصولًا إلى تقييد عمليات طيران المروحيات والطائرات بدون طيار للجيش الألماني، مما دفع وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، إلى التشكيك بمستقبل البعثة العسكرية لبلادها.
وأثار ذلك اهتماماً في الوسط السياسي بمدى أهمية مناقشة الوجود العسكري لـ"البوندسفير" (القوات المسلحة الاتحادية) مع الشركاء، في مهمة التدريب التابعة للاتحاد الأوروبي، وفي قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة "مينوسما" في مالي؛ البلد الواقع في غرب أفريقيا، سيما وأنّ ألمانيا لا يمكنها أن تلعب دوراً رائداً هناك في ظل النقمة على الفرنسيين.
ومع تعامل المجلس العسكري في مالي بانفتاح كلّي على موسكو، والسماح رسمياً بتواجد الجنود والمدربين والمروحيات الروسية، وتغلغل مجموعة "فاغنر"، أبرزت صحيفة "تاغس شبيغل" الألمانية أنه لا يمكن أن تستمر الأمور على هذا النحو، سيما وأنّ علاقات مالي مع القوة الاستعمارية السابقة؛ فرنسا، على وشك الانهيار.
وأشارت الصحيفة إلى أنّ الوضع يزداد سخونة وراء الكواليس، ولا أحد يريد أن يعترف بفشل المهمات العسكرية لآلاف الجنود من الدول الأوروبية في مكافحة الإرهاب في مالي، طوال حوالي 9 سنوات، والمطلوب وضع استراتيجية مشتركة جديدة بحلول موعد انعقاد قمة الاتحاد الأوروبي وأفريقيا، في بروكسل منتصف فبراير/شباط الحالي، في ظل حديث عن إمكانية نقل القوات العسكرية إلى النيجر.
وفي السياق، قال أولف ليسينغ، الذي يرأس مؤسسة "كونراد أديناور" التابعة لـ"الحزب المسيحي الديمقراطي" في باماكو عاصمة مالي، للصحيفة، إنه "ليس سرّاً أنّ لروسيا مصلحة في تقسيم الغرب، وأصبح الماليون الآن أكثر ثقة بالنفس بفضل المساعدات العسكرية الروسية، وحرروا أنفسهم من الغرب".
تبعات انسحاب يحقق مصالح روسيا
ولفت ليسينغ، إلى أنه يمكن أن يكون هناك تحريض من الروس على الأوروبيين في مالي، لكنه استبعد أن يكون الجنود الروس، والبالغ عددهم حوالي 500 جندي، قادرين على السيطرة على الإسلاميين إذا ما انسحب الأوروبيون، "وإذا غادرنا البلاد سنتركها لروسيا ونساهم في زعزعة الاستقرار"، وسط تخوف من هزيمة مريرة كتلك التي حصلت في أفغانستان.
بدورها، قالت رئيسة لجنة الدفاع في البوندستاغ (البرلمان) ماري أغنيس شتراك تسيمرمان، من الحزب "الليبرالي الحر"، في حديث مع شبكة التحرير الألمانية، إنها لم تعد تستبعد سحب الجنود الألمان، البالغ عددهم 1200 جندي، مشيرة إلى أنّه من الجيد أنّ وزيرة الخارجية أنالينا بيربوك تلقي نظرة فاحصة على هذه المهمة قبل تمديدها، و"على المرء التعامل مع طبيعة المهمة بعقل منفتح، سيما وأنّ حقيقة الوضع في منطقة الساحل بأكملها، من بوركينا فاسو وتشاد إلى مالي، تعاني من الأنظمة الانقلابية".
محاذير إنهاء المهمة العسكرية
ووسط مطالبات بالإقرار بفشل النفوذ الأوروبي في تأمين الأمن بمساعدة الآخرين في مالي، وصفت شبكة "إيه آر دي" الإخبارية، الوضع في مالي بأنّه "معقّد للغاية"، لكنّها حذرت في الوقت عينه من أنّ إنهاء المهمة العسكرية الدولية "سيكون محفوفاً بالمخاطر، لا سيما لناحية ظهور موجة هجرة جماعية غير نظامية إلى أوروبا".
وتظل مالي دولة رئيسية في الحرب ضد الإرهاب، رغم أنّ الأوروبيين لم يجدوا خطاً واضحاً في التعامل مع الفساد، وسوء الإدارة، والوعود الكاذبة هناك. والنتيجة: انقلابان عسكريان خلال عامين. لذلك، ترى الشبكة الألمانية، أنّه لا يمكن لأوروبا أن تكون غير مبالية في مالي، والالتزام الدولي لا يمكن أن يستمر كما كان من قبل، حيث كان الخبراء الأمنيون لسنوات يرددون أنه لا يمكن هزيمة الإرهاب عسكرياً.
وفي الإطار، يبرز مراقبون أنّ مشكلة مالي تكمن في أنّ الإرهابيين أقاموا بالفعل هياكل موازية أصبحت جزءاً من المجتمع، وهذا ما يجعل من الصعب تصنيفهم على أنهم مقاتلون إرهابيون تقليديون، فيما البلاد عالقة في طريق مسدود. وبخصوص ذلك، رأت "إيه آر دي" أنّه يجب الآن مراعاة ثلاثة جوانب: أولاً، يجب على أوروبا أن تتجرأ على استئناف التزامها في مالي. ثانياً، ذلك ممكن حالياً مع المجلس العسكري فقط، حتى لو كان شريكاً غير مثالي. ثالثاً، يجب أن تجد أوروبا خطاً واضحاً، وألا تضع المصالح الفردية لفرنسا في المقدمة.
البوندستاغ يقرر
من جهتها، قالت بيربوك لصحيفة "زود دويتشه تسايتونغ"، إنه "في ضوء الخطوات الأخيرة التي اتخذتها الحكومة المالية، علينا أن نسأل أنفسنا بصدق، ما إذا كانت الشروط الأساسية لنجاح التزامنا المشترك لا تزال قائمة، والالتزام ليس غاية في حد ذاته"، مشيرة إلى أنّ "هناك تشاوراً مع الشركاء الدوليين والاتحاد الأوروبي، ولا سيما فرنسا، حول كيفية الاستمرارعلى الأرض، مع القرارات التي اتخذتها الحكومة الانتقالية هناك، لناحية تقييد حرية وتحرك القوات الدولية، بما فيها سحب تصاريح تحليق الطائرات".
ووسط هذا الغموض حيال المهمة، ستكون الأنظار شاخصة نحو البوندستاغ الذي له أن يقرر، حتى مايو/أيار المقبل، تمديد المهمة العسكرية في مالي من عدمه.
ويعود الانتشارالعسكري الألماني في مالي إلى عام 2013، بعد مطالبات من حكومة مالي بمساعدة دولية وأممية لصد هجمات الجماعات المتطرفة.