في الأيام الأولى بعد بدء الحرب الروسية على أوكرانيا في 24 فبراير/شباط 2022، سادت حالة من الذعر والتوتر في شوارع موسكو، وسط احتشاد طوابير أمام آلات السحب الآلي ونفاد الأوراق النقدية بها، وانهيار سعر صرف الروبل إلى أدنى مستوياته تاريخياً، بينما هيمنت التساؤلات حول آفاق تطور الوضع على الأحاديث بين المواطنين.
لكن بعد مرور عام على اندلاع الحرب، تبدو الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في الشارع الروسي مستقرة، وسط تسجيل الاقتصاد أداء أفضل مما كان متوقعاً، وعودة سعر صرف الروبل إلى مستويات أفضل حتى مما كانت عليه في بداية العام الماضي.
أليكسي كرابوخين: النتيجة الرئيسية لسنة مضت هي استقطاب حاد في المجتمع
ولا يبدو المشهد في شوارع موسكو مختلفاً كثيراً عما كان عليه قبل عام، باستثناء إغلاق متاجر العلامات التجارية الغربية التي انسحبت من السوق الروسية، وارتفاع أسعار السلع في متاجر التجزئة، بعد أن بلغت نسبة التضخم في العام الماضي نحو 12 في المائة، بينما يواصل السكان أعمالهم بصورة اعتيادية بلا تأثير مباشر للحرب على حياتهم اليومية.
قمع للمعارضة وتضييق على الإعلام
في موازاة ذلك، تمكنت السلطات الروسية من منع أي صوت معارض لسياساتها، خصوصاً بعد حملة الاعتقالات التي طاولت الذين شاركوا في التظاهرات المناهضة للحرب خلال الأشهر الأولى للغزو الروسي.
وتشير بيانات موقع "أو في دي إنفو" الحقوقي إلى أنه تم توقيف نحو 20 ألف شخص على خلفية تعبيرهم عن مواقفهم المناهضة للحرب خلال الأشهر الـ11 الأولى من الحرب، وقع أكثر من 15 ألفاً منها خلال الشهر الأول على بدء الحرب، والذي شهد ذروة التظاهرات والاحتجاجات، قبل أن تتراجع وتيرتها في الأشهر التالية بشكل كبير.
ومن بين أشهر الشخصيات السياسية والعامة التي غادرت روسيا رفضاً للحرب، المدون الروسي الأشهر على "يوتيوب" يوري دود، البالغ عدد المشاهدات على قناته نحو مليارين، وملكة البوب الروسية المطربة آلا بوغاتشوفا وزوجها الفنان الساخر مكسيم غالكين الذي عارض الحرب منذ بدايتها، ومبعوث الرئيس الروسي الخاص لشؤون التنمية المستدامة، أناتولي تشوبايس، في ما يعد حالة الانشقاق الوحيدة لمسؤول روسي بهذا المستوى منذ بدء الحرب.
ويقبع آخرون في السجون على غرار أليكسي نافالني الذي سجن في 2021 حين عدلت المحكمة الحكم بالسجن مع وقف التنفيذ إلى السجن النافذ في قضية "الاختلاس" الخاصة بشركة "إف روشيه"، نظراً لعدم حضوره إلى جهات الهيئة الفدرالية لتنفيذ العقوبات للتسجيل، بما في ذلك أثناء تلقيه العلاج من آثار التسميم بالغاز في برلين.
ورغم أنه كان من المقرر أن يتم الإفراج عن نافالني في يوليو/تموز أو أغسطس/آب 2023، ولكن حكماً بحقه في قضية أخرى متعلقة بالتلاعب بالسجن المشدد لمدة تسع سنوات، دخل حيز التنفيذ في الصيف الماضي.
كذلك يبرز اسم النائب المحلي السابق، السياسي المعارض، إيليا ياشين، الذي حكم عليه بالسجن لمدة 8 سنوات ونصف السنة بتهمة نشر أخبار كاذبة حول الجيش الروسي، إلى جانب الصحافي والسياسي فلاديمير كارا مورزا الذي يتواجد في السجن منذ العام الماضي في انتظار المحاكمة. والأخير يعد من أشد معارضي الكرملين في الداخل الروسي وشكّل مع غيره من الشخصيات المعارضة "اللجنة الروسية لمناهضة الحرب" التي طالبت المجتمع الدولي بتصنيف القيادة السياسية الروسية كـ"مجرمي حرب". وعرف عنه أنه أحد رواد الترويج للعقوبات الغربية ضد روسيا، بما فيها "قانون ماغنيتسكي" الذي تبنته واشنطن في عام 2012، وشمل عقوبات على مجموعة من الشخصيات الروسية ممن لهم ضلوع في الانتهاكات الحقوقية.
واتسم عام الحرب بحالة من التضييق غير المسبوق في تاريخ روسيا ما بعد السوفييتية على الإعلام، وحتى شبكات التواصل الاجتماعي، ووصل إلى صدور أحكام بالسجن لفترات طويلة، غيابياً وحضورياً، بحق عدد من السياسيين والمدونين والإعلاميين المعارضين للحرب، ولكن ذلك لم يمنع بعض الشباب الروس من الإصرار على إشهار موقفهم من داخل روسيا.
ماريانا ريبو، صحافية وكاتبة في منتصف الثلاثينيات من عمرها واحدة من هؤلاء، تقول لـ"العربي الجديد": "أعتبر أن الحرب هي جريمة نكراء، وأشعر بخيبة أمل كبيرة تجاه المجتمع الروسي، حيث فوجئت بأن العدوان على أوكرانيا لم يُثر أي مقاومة تذكر، وسط حالة من السلبية واللامبالاة وحتى العمى". وتؤكد ريبو أنها لا تتعرض لأي تضييق اجتماعي بسبب موقفها.
وتضيف: "أواجه حالة من عدم التفاهم والخوف على سلامتي من قبل المحيطين بي من الأصدقاء والأقرباء. يعتبر كثيرون موقفي غريباً، حيث إن الناس يتعرضون لتأثير دعاية الكرملين، حتى إذا لم يكونوا يدعمون الحرب بشكل مباشر، فهم مقتنعون بأن الولايات المتحدة هي المسؤولة عما آلت إليه الأمور". ومع ذلك، تقر بأنها قللت في الفترة الأخيرة من التعبير عن آرائها، معتبرة إياه خطراً غير مبرر في ظل وصول النزاع إلى مرحلة لا يمكن فيها وقفه عبر الاحتجاج.
وبعد عدة أيام على بدء الحرب في أوكرانيا قبل عام، سنّت السلطات الروسية قانون "الأخبار الكاذبة" حول أعمال العسكريين الروس. وتتراوح العقوبات بموجب القانون الجديد بين فرض غرامات مالية، والسجن لمدة تصل إلى 15 عاماً في حال أسفر نشر الأخبار الكاذبة عن عواقب وخيمة، فيما أوقفت جميع وسائل الإعلام المستقلة المؤثرة أعمالها في روسيا أو نقلت مقارها إلى الخارج، ما زاد من هيمنة إعلام الصوت الواحد على المشهد الروسي وتحكمه في الرأي العام.
تشكيك بنتائج استطلاعات الرأي
وعلى الرغم من حالة الاستقطاب التي تسود في المجتمع الروسي، تظهر بيانات مركز "ليفادا" للتحليل، مثلاً، أن نسبة استحسان أداء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ارتفعت من 69 في المائة في يناير/كانون الثاني 2022، إلى 82 في المائة في يناير الماضي، مع تراجعها إلى ما دون 80 في المائة في أشهر الخريف الماضي، التي شهدت تعبئة نحو 300 ألف من أفراد الاحتياط للقتال في أوكرانيا.
إلا أن عضو المجلس الإقليمي لحزب "يابلوكو" ("تفاحة") الليبرالي المعارض في موسكو، أليكسي كرابوخين، يشكك في دقة أي استطلاع رأي يجرى في زمن نزاع عسكري، معتبراً أن روسيا، مجتمعاً وأوساطاً سياسية، بلغت مستوى غير مسبوق من الاستقطاب بين أنصار العملية العسكرية في أوكرانيا ومعارضيها.
ويقول كرابوخين، في حديث لـ"العربي الجديد": "لا يمكن أن نثق في نتائج الاستطلاعات في زمن النزاعات، لاسيما بعد اعتماد المسؤولية الجنائية عن معارضة العملية العسكرية الخاصة. تجرى استطلاعات الرأي عبر الهاتف، وقد لا يكون رأي المستطلع صادقاً دائماً في إجابته خوفاً من تسجيل صوته".
ويقدر نسبة أنصار العملية العسكرية النشطين بـ20 في المائة تقريباً، والنسبة ذاتها من المعارضين، بينما يشكل نحو 60 في المائة أغلبية صامتة قد تكون مستاءة من المظاهر السلبية مثل ارتفاع الأسعار، مقراً في الوقت نفسه بأن الدولة لا تزال حتى الآن قادرة على غسل أدمغة أبناء هذه الفئة عبر الدعاية، خصوصاً أن الاقتصاد الروسي والروبل أظهرا صموداً واستقراراً غير متوقعين.
انقسام المعارضة الروسية
يعتبر كرابوخين أن النتيجة الرئيسية لسنة مضت هي استقطاب حاد في المجتمع. ويضيف: "وصل الانقسام إلى حد سوء التفاهم داخل بعض العائلات بسبب الاختلاف في الآراء. وهناك انقسامات حتى في صفوف المعارضة، وأصبح هناك خط فاصل بين أنصار العملية العسكرية ومعارضيها. في السنوات السابقة، شهدنا تحالفات سياسية ظرفية بين الليبراليين والشيوعيين أثناء التصويت الذكي، مثلاً، لكن لم يعد من الممكن أن نتصور ذلك اليوم".
تجدر الإشارة إلى أن التصويت الذكي هو آلية استحدثها المعارض المعتقل، مؤسس "صندوق مكافحة الفساد"، أليكسي نافالني، لدعم المرشحين الأكثر قدرة على إلحاق هزيمة بمرشحي حزب "روسيا الموحدة" الحاكم بالدوائر الانتخابية. وكان يصب في أغلب الأحيان في مصلحة الحزب الشيوعي، كونه يأتي في المرتبة الثانية من جهة نسبة التأييد، ولكن هذا التحالف لم يعد ممكناً على ضوء دعم الشيوعيين للحرب على أوكرانيا.
وأحدثت الحرب في أوكرانيا انقساماً حتى داخل الجناح الليبرالي للمعارضة الروسية، إذ واجه مؤسس حزب "يابلوكو"، غريغوري يافلينسكي، انتقادات لاذعة من قبل معارضين آخرين، بعد نشره في بداية فبراير/شباط الحالي، مقالاً بعنوان "توقفوا!"، ذكّر فيه أن بوتين تحدث مراراً عن استعداده لاستخدام السلاح النووي، داعياً إلى عدم إيصال الوضع إلى مأزق، ومؤكداً أن "دولة بوتين لن تتوقف أمام أي شيء".
ويعتبر يافلينسكي، وهو مرشح رئاسي سابق وأحد أبرز الوجوه في المشهد السياسي الروسي في تسعينيات القرن الماضي، في مقاله، أن رخاء الدول في القرن الـ21 لا يعتمد على مساحة أراضيها ومواردها الطبيعية، في تلميح إلى فكرة تنازل أوكرانيا عن الأراضي التي خسرتها من أجل وقف الحرب.
وأثار هذا المقال حفيظة معارضين ليبراليين آخرين، إذ يرى ميخائيل خودوركوفسكي، الملياردير الروسي السابق المعارض المقيم في لندن حالياً، أن يافلينسكي يتلاعب بجمهوره، شأنه في ذلك شأن المذيعين الموالين للسلطة، عبر ترديد الخطوط العريضة التي يسعى الكرملين لترويجها بين متابعيه من أصحاب التوجهات الليبرالية في إطار الصراع على عقولهم.
صمود روسي بوجه العقوبات
في مقابل ذلك، يرى كبير الباحثين في معهد علم الاجتماع التابع لأكاديمية العلوم الروسية، أندريه أندرييف، في حديث مع "العربي الجديد" أن العقوبات الاقتصادية التي راهن عليها الغرب لإحداث تصدعات داخلية في روسيا، أتت بنتائج عكسية، وزادت من وحدة المجتمع رغم تعرضه لصدمات.
أندريه أندرييف: العقوبات الاقتصادية التي راهن عليها الغرب لإحداث تصدعات داخلية في روسيا، أتت بنتائج عكسية
ويقول أندرييف، في حديث لـ"العربي الجديد": "كان شن العملية العسكرية خطوة اضطرارية، إذ كان يتم الإعداد لضربة لروسيا عبر جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الجديدتين المدعومتين من موسكو في دونباس، وكانت هناك خطة لتوريط روسيا في نزاع في أوكرانيا لإضعافها من الداخل. إلا أن الرهان على إثارة أزمة في روسيا لم يتحقق، بل ازدادت وحدة المجتمع الروسي، ما يعكس عجز النخب السياسية الغربية ومبالغتها في تقدير قدراتها".
ومع ذلك، يقر بأن المجتمع الروسي تعرض لصدمتين خلال عام مضى، موضحاً: "جاءت الصدمة الأولى عند بدء العملية العسكرية، إذ لم يكن المجتمع يتوقع ذلك، رغم تكهنات كثيرة بهذا الخصوص. وجاءت الصدمة الثانية في الخريف الماضي، بعد انسحاب القوات الروسية من مقاطعة خاركيف (شمال شرق أوكرانيا)، ثم إعلان عن التعبئة الجزئية لأفراد الاحتياط التي تخللتها انتهاكات كثيرة. أضف إلى ذلك الخسائر الهامة في صفوف قوات الجيش".
وفي ظل الحساسية التي تشكلها أنباء عن سقوط قتلى في صفوف الجيش للرأي العام، لم تعلن وزارة الدفاع الروسية عن إجمالي عدد الضحايا في قواتها منذ سبتمبر/أيلول الماضي، حين كشفت عن سقوط نحو 6 آلاف قتيل، وسط حظر على اقتباس أي أرقام غير رسمية بوسائل الإعلام.
وعلى الصعيد الاقتصادي، يلفت أندرييف إلى فشل الرهان الغربي على إحداث انهيار للاقتصاد الروسي، قائلاً: "كان الغرب يراهن على أن تصبح أرفف المتاجر في روسيا خالية من منتجات شركاته، ولكن جميعها متوفر عبر آلية الاستيراد الموازي عبر دول ثالثة، بينما أظهر الاقتصاد درجة عالية من المرونة والاستقرار، رغم أن هناك قطاعات، مثل إنتاج السيارات، تواجه نقصاً في المكونات".