دوافع حرب بن غفير على الأسرى الفلسطينيين وتداعياتها

26 فبراير 2023
مظاهرة حاشدة في غزة دعماً للأسرى والقدس والضفة (مجدي فتحي/Getty)
+ الخط -
تختزل الحرب التي أعلنها عضو الكنيست ووزير الأمن القومي الإسرائيلي؛ المتطرف إيتمار بن غفير، على الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، بعض سمات شخصيته التي تمزج بين الشعبوية والصبيانية، والتطرف الأعمى الممزوج بالغرور والطيش والكراهية، والجهل في تعقيدات الصراع ومعادلاته، وأجندته الفاشية المعادية لكل ما هو غير يهودي، كما تعكس الوجه الحقيقي لما أفرزته الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، وما يمكن أن تقود إليه، وأثرها على الواقع وطبيعة الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي.
تستند وتتغذى الحملة المسعورة التي أعلنها إيتمار بن غفير مبكرًا؛ حتى قبل تسلمه وزارة الأمن القومي، على الكراهية، والرغبة في الانتقام من الأسرى، وعلى التملق إلى جمهورٍ متطرفٍ متعطشٍ لإذلال الأسرى والتنكيل بهم، بعيدًا عن الاعتبارات القانونية، وعن حقيقة الوضع المعيشي الصعب والقاسي الذي يعيشه الأسرى، كذلك بعيدًا عن الاعتبارات الأمنية، الباحثة عن إجراءاتٍ تضمن وضعًا أمنيًا أفضل، بل على العكس من ذلك تمامًا، اذ يمكن لهذه الحملة أن تتسبب في تفجير الأوضاع داخل السجون وخارجها، مشكلةً الشرارة التي تطلق موجةً جديدةً من الصدام، وفق ما حذرت منه أذرع الأمن الإسرائيلي ذاتها، في الأول من فبراير/شباط الحالي، كما أوردتها وسائل الإعلام الإسرائيلية.
يعي الأسرى داخل سجون الاحتلال أبعاد وتداعيات حملة بن غفير عليهم (يصفونه بـ "المأفون؛ فتى التلال وحفيد كهانا")، ومدى خطورتها على الواقع الأمني برمته، كما تجلى؛ دون أي لبس، في الرسالة التحذيرية التي وجهوها إلى مديرية مصلحة السجون الإسرائيلية؛ باللغة العبرية، والتي نشرتها القناة 11 الإسرائيلية، في تاريخ الرابع عشر من فبراير/شباط 2023، إذ حذروا فيها من أن الإجراءات "ستؤدي إلى اندلاع اللهيب في المنطقة"، خاصة أن دوافعها عنصرية ونابعة من الرغبة في كسر إرادتهم وإذلالهم، وهي "تخدم أهدافًا ومآرب سياسية بعد أن أثبت بن غفير فشله في تحقيق الأمن للإسرائيليين"، أيضًا؛ بعد أن وضع نفسه رأس حربة للحكومة الفاشية، عبر تمريره وقيادته هذه الحملة سيكون هو المسؤول عن "الأبعاد التي ستكون أكثر بكثير مما يظنون، لأننا نحن أسرى تحرير ولن نقبل أن نغرق في تفاصيل ظروف حياتنا، على كسرة خبز هنا أو هناك، أو على مياه الحمام، نحن نحارب من أجل قضيتنا وتحريرنا، والذي قرر نقل المعركة من خارج السجون إلى داخلها سيضطر إلى خوضها وجهًا لوجه خارج أسوار المعتقل، في القدس والضفة الغربية وغزة".

هناك حدودًا لقوة عدوهم، كما لا يتوفر لديه طول النفس والقدرة على الصمود في حربٍ يفرضها عليهم هربًا من الفشل الذي مني به أمنيًا على الأرض، في مواجهة العمليات الفردية والتحديات الأمنية المعقدة 

 

مسار متصاعد من العقوبات

بدأ بن غفير حملته اللفظية والكلامية في وسائل الإعلام، كذلك في حملته ووعوده الانتخابية، التي تعهد فيها بتحقيق هدفين اثنين متعلقين بالأسرى؛ في حال وصوله إلى موقع القرار، يتمثلان في إقرار عقوبة الإعدام أولًا، وسحب كافة الإنجازات الحياتية التي يتمتعون بها ثانيًا. شرع في ترجمتها منذ بداية توليه مهامه وزيرًا للأمن القومي الإسرائيلي، إذ زار بعد يومٍ واحدٍ من تسلمه مهام منصبه سجن نفحة الصحراوي؛ الذي يعد واحدًا من أقدم سجون الاحتلال الحالية، واجتمع هناك مع ضباط وقادة مديرية السجون، أعطى خلال اجتماعه معهم تعليمات تقضي بتشديد الإجراءات ضد الأسرى، والبدء فورًا في التضييق عليهم.
بعد هذه الزيارة بأسبوع، وبعد أن تلقى تقارير من ضباط مديرية السجون، أصدر تعليماته بتقليص وتقييد زيارات أعضاء الكنيست للأسرى الأمنيين، بمعدل زيارةٍ واحدةٍ لنائبٍ واحدٍ عن كل كتلةٍ برلمانيةٍ، يستهدف هذا الإجراء أعضاء الكنيست العرب، وقد وصفه مستشار الكنيست القانوني بأنه "يمس القدرة على فرض رقابةً برلمانيةً على ما يحدث داخل السجون"، وفق ما نشرته صحيفة "يسرائيل هيوم" الإسرائيلية، في الثامن من يناير/كانون الثاني 2023.
إذاً؛ كانت الإجراءات السابقة عامةً وتمس هامش الرقابة والتواصل مع العالم الخارجي، فإن الإجراءات التي تلتها تنقل المعركة إلى الميدان وتذكي نار المواجهة، كما في إغلاق مخبزين كانا يديرهما الأسرى، ويعدون فيهما الخبز لأنفسهم في سجن النقب، ومن ثم تحديد وقت الاستحمام بأربع دقائق للأسير الواحد في اليوم، والسماح بتدفق المياه الساخنة لمدة ساعةً واحدةً يوميًا لكل قسمٍ، وإغلاق سجن هداريم ونقل كل الأسرى القاطنين فيه، والتلويح بإجراء حملة تنقلات واسعة كل شهر.
المواجهة تلوح بالأفق، خاصةً بعد رسائل الأسرى الموجهة إلى الرأي العام الفلسطيني والعربي والعالمي، التي أعلنوا فيها حالة الاستنفار القصوى، كما أن خطواتهم سوف تكون سريعة، ردًا على هذه الحملة و"مواجهتها بكل الأدوات المتاحة"، وهو ما يشي بقرب اللحظة التي قد تمتد فيها المواجهة إلى خارج السجون، وفقًا لما حذر منه الأسرى، وأذرع أمن الاحتلال على حدٍ سواء.

انعدام الكوابح

ما يثير القلق في الحملة المجنونة والمسعورة التي يقودها وزير الأمن الإسرائيلي؛ إيتمار بن غفير، أنها تأتي في ظل تشكيلةٍ حكوميةٍ هي الأكثر تطرفًا في توجهاتها المعادية لكل ما هو غير يهودي، وتحمل أجندةً خطيرةً تضع خيار القوة والقمع والقبضة الحديدية في التعامل مع مقاومة الشعب الفلسطيني خيارًا وحيدًا، مستفيدةً من حالة التمزق والضعف، التي تعيشها الساحة الفلسطينية، والتواطؤ الدولي مع الاحتلال وحكومته، وغض الطرف عن برنامجها الفاشي، والأجواء الداخلية المعبأة ضد الأسرى، التي ساهم الإعلام الإسرائيلي والحملات الانتخابية والتنافس الشرس بين كتل اليمين في إشاعتها.
الأجواء الداخلية والانقسام العميق، الذي تشهده الساحة الإسرائيلية حول برنامج الحكومة بشأن القضاء، سيشكل رادعًا أمام تدخل الجهاز القضائي في هذه الحملة وكبح جماحها. كما أن تأثير أجهزة الأمن بات محدودًا، لأنها تسعى إلى المواءمة مع توجهات الحكومة الإسرائيلية الجديدة، التي لا تتورع عن مهاجمة وشيطنة كل من يبدي رأيًا مخالفًا أو (معتدلًا) تجاه كل ما يتعلق بالمقاومة الفلسطينية وسبل مواجهتها والتعامل معها، رغم تحذيراتها وتجاربها السابقة وقراءاتها الاستخباراتية، وتأكيدها أن مثل هذه الإجراءات لن يكون لها تأثير إيجابي على الوضع الأمني، ولو بحده الأدنى، بل إن الشروط القائمة الآن في السجون مدروسةٌ بعنايةٍ و(كافيةٌ أمنيًا)، وهو ما يعني أن بن غفير قد وجد ساحةً مريحةً وأرضيةً خصبةً ليبث أحقاده وينفذ سياسته الفاشية.

 تستند وتتغذى الحملة المسعورة التي أعلنها إيتمار بن غفير مبكرًا؛ حتى قبل تسلمه وزارة الأمن القومي، على الكراهية، والرغبة في الانتقام من الأسرى

 

كلفة الفشل

تعلمنا تجارب الماضي، أن مصير هذا النوع من الحملات هو الفشل الحتمي، لأن الأسرى؛ الذين انتزعوا كل حقٍ من هذه الحقوق انتزاعًا، وراكموها بتضحياتهم عبر سنواتٍ وعقودٍ طويلةٍ من النضال والإضرابات، وقدموا في سبيلها أطنانًا من اللحم والعرق والدماء، ليس أمامهم سوى مواجهتها لكل السبل الممكنة لديهم.
تحمل رسائل الأسرى التي تنشر، ويعبّأ الرأي العام بها تباعًا؛ منذ صعود الحكومة الحالية، نبرة تحدٍّ وثقةٍ بالنفس، كما تعكس وعيًا ودرايةً كافيةً بطبيعة الحكومة الإسرائيلية والأزمات التي تواجهها، ما يجعلنا نفترض أن خطوات الأسرى هذه المرة ستكون متناسبةً مع هذه العوامل، ولن تكتفي بالتلويح أو خوض خطواتٍ تحذيريةٍ ذات طبيعةٍ تكتيكيةٍ، بل ستنطلق من أولى درجات السلم في خطواتٍ تصعيديةٍ ذات طبيعةٍ استراتيجيةٍ، مثل الإضراب المفتوح عن الطعام، أو الإعلان عن حل المرجعيات التنظيمية، والتخلي عن الأطر التنسيقية، وقنوات التواصل الجماعية المألوفة، والتمثيل الجماعي أمام مديرية السجون، وهي خطوة تعتبر نوعًا من التمرد والفوضى المضبوطة، التي تخشاها مديرية السجون.
تقف مديرية السجون حتى الآن جانب الجدار، فهي لا تستطيع الخروج عن تعليمات الوزير المسؤول عنها، رغم علمها أن حملته تنطلق من اعتباراتٍ شعبويةٍ ومرضيةٍ، لا علاقة لها بالأمن والحالة القائمة داخل السجون، لكنها من جهة أخرى تعي جيدًا أن تنفيذ سياساته والسير في حملته سيستنزفها ويضعها في مواجهةٍ مفتوحةٍ، تعلم تداعياتها ونتائجها مع الأسرى مسبقًا، لذا فإنها (وفق الرسائل والأخبار التي تخرج تباعًا من الأسرى داخل السجون) تحاول احتواء وتمرير سياساته تدريجيًا، وتخفيف أثرها قدر الإمكان، وهو ما يرى به الأسرى تساوقًا مع ذات السياسة، ومحاولة الإدارة لكسب المزيد من الوقت، وتحيّن الظرف المناسب للانقضاض عليهم.
إن خيار الخنوع والسماح بتمرير هذه الحملة غير وارد، ولدى الأسرى رصيدٌ عريقٌ من سنوات الخبرة والنضال، وأدواتٌ نضاليةٌ داخليةٌ وخارجيةٌ متعددةٌ، تمكنهم من شحذ هممهم وخوض هذه المعركة، خاصةً أنهم يعلمون جيدًا أن هناك حدودًا لقوة عدوهم، كما لا يتوفر لديه طول النفس والقدرة على الصمود في حربٍ يفرضها عليهم هربًا من الفشل الذي مني به أمنيًا على الأرض، في مواجهة العمليات الفردية والتحديات الأمنية المعقدة، التي فرضها جيلٌ جديدٌ يقدم نموذجًا مختلفًا من العمل المقاوم.
كلفة هذه المواجهة ستكون عالية؛ دون أدنى شك، ليس على الأسرى فقط، بل على إسرائيل والمنطقة، وسيجد العالم؛ الذي ينشد الهدوء، نفسه في دوامة عنفٍ جديدةٍ، في ظل حالة دوليةٍ وإقليميةٍ وفلسطينيةٍ معقدةٍ جدًا، لا يستطيع أحد أن يتنبأ بنهايتها وخاتمتها، وهي كلفةٌ تتحمل مسؤوليتها حكومة الاحتلال، والمجتمع الدولي الذي لا يقف بحزمٍ في وجه توجهاتها وأجندتها الفاشية.