تعايشت الإدارات الأميركية المتعاقبة بدرجة أو بأخرى مع نظام الفصل العنصري "الأبارتهايد" المموّه في إسرائيل. فطالما كانت الحكومات الإسرائيلية تمارس التمييز بأشكاله غير المعلنة بصورة فاقعة، فيما كانت واشنطن توفر لها التغطية، ولو بحيثيات واهية.
الآن مع مجيء أقصى اليمين الإسرائيلي المجاهر بعنصريته "الكاهانية" مثل حزب "الصهيونية الدينية"، وجدت إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، نفسها أمام وضع فاضح لا تقوى على تجاهله. انعكس ذلك في مسارعتها إلى التعبير عن "عدم ارتياحها" الضمني لنتائج الانتخابات الإسرائيلية، ووعدت على غير عادة، بإعطاء رأيها بالحكومة الآتية "بعد تشكيلها"، كما قال المتحدث باسم وزارة الخارجية نيد برايس.
أبارتهايد مكشوف على طريقة رئيس حزب "الصهيونية الدينية" إيتمار بن غفير والمرشح ليكون أحد أركان حكومة بنيامين نتنياهو الجديدة، يحرج الإدارة ويخرب على سياساتها في المنطقة. في ضوء ذلك يتوقع أن ترتفع حدة التوتر بين واشنطن وحكومة نتنياهو، طبعاً من غير مساس بطبيعة العلاقات العضوية بين واشنطن وتل أبيب التي تعلو على الانتخابات ونتائجها، كما على العلاقات الشخصية غير الودية بين بايدن ونتنياهو.
هذا التطور يطرح سؤالين: هل يحسم البيت الأبيض ويتحرك لكبح الانفلات المتوقع لحكومة اليمين الكاهاني؟ ثم هل تشكل مشاركة حزب "الصهيونية الدينية" الذي يؤمن بالاقتلاع والإلغاء، مدخلاً لتغيير الخطاب باتجاه خوض المعركة مع نظام أبارتايد مكشوف، كما جرى في جنوب أفريقيا؟
الإدارة تعمدت في الآونة الأخيرة ترك الانطباع من خلال تصريحات وتلميحات المسؤولين بأنها ضاقت ذرعاً بتمادي إسرائيل في ممارسة العنف بحق الفلسطينيين، وفي تدابيرها القمعية التي لا تسكت واشنطن عنها لو حصلت في بلد آخر مثل منعها لجمعيات حقوق الإنسان الفلسطينية من ممارسة أنشطتها المدنية. لكن سكوتها، جرياً على العادة، ساهم في استئساد الاحتلال في الأراضي الفلسطينية. الآن الفرصة متاحة لها لترجمة انزعاجها المزعوم من الانفلات الإسرائيلي المرشح للمزيد من التصعيد مع مجيء نتنياهو.
بايدن أخذت رئاسته حقنة زخم بحجم انقلاب كاسر وغير متوقع لمصلحته هو وحزبه في الانتخابات النصفية. ألحق هزيمة كبيرة بالحزب الجمهوري أدخلت هذا الأخير في حرب أهلية – سياسية انفجرت على المكشوف في اليومين الأخيرين بين الرئيس السابق، دونالد ترامب، وقيادة الحزب وبما يسهل الطريق أمام الحزب الديمقراطي لخوض انتخابات الرئاسة في 2024 من غير خصم وازن ضده.
بذلك تعزز وضعه في الداخل والخارج وبما يمكنه من ترجمة وعوده الفلسطينية لو أراد، وفي أقله ضمان "تمتعهم بحقوق متساوية مع إسرائيل في الحرية والأمن والازدهار"، حسب كلام المسؤولين المكرور في هذا الخصوص. وقد يُقدِم على شيء محدود في هذا الاتجاه، ليس من باب التزام حقوق الشعب الفلسطيني بقدر ما هو من باب استباق الأمور المندفعة في طريق الأبارتهايد الذي صارت عبارته متداولة بشكل متزايد وملحوظ في توصيف السياسات والإجراءات الإسرائيلية إزاء فلسطينيي الأراضي المحتلة.
في إبريل/ نيسان 2021، صدر تقرير لمنظمتي "هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية" عن اندفاع إسرائيل في طريق الأبارتهايد. خطاب الاحتجاج عليهما من جانب الكونغرس وغيره من الجهات الحارسة لمصالح إسرائيل في أميركا، لم تمنع توسع دائرة هذا التصنيف الذي صار مقبولاً لدى "25% من اليهود الأميركيين" كما ذكرت الناشطة والباحثة اليهودية فيليس بانيس من "مؤسسة الدراسات السياسية" في كلمتها في المؤتمر السنوي الذي عقده أمس الجمعة مركز "صندوق القدس للثقافة والتنمية الاجتماعية" بواشنطن.
وكان موضوع الأبارتهايد الإسرائيلي محور ندوات المؤتمر الثلاث التي شاركت فيه نخب أكاديمية وإعلامية وثقافية، فيما تمحور التعليل حول كون الممارسة الإسرائيلية على الأرض تتطابق مع كل مواصفات التمييز العنصري الصافي وأنه لا جدوى ولا رجاء من انتظار تغيير في السياسة الأميركية الرسمية. البديل الواعد هو مخاطبة الرأي العام بلغة الأبارتهايد القانونية التي أثبتت جدواها وإمكانية تسويقها كما حصل ضد نظام جنوب أفريقيا السابق، والتي تحولت إلى حملة مقاطعة متوسعة اضطرت واشنطن ولندن بالنهاية إلى المشاركة فيها، ما أدى إلى تضييق الخناق على النظام الذي انتهى إلى الانهيار.
وإذ يأخذ أصحاب هذا الطرح بالاعتبار الفروقات بين جنوب أفريقيا السابقة وإسرائيل اليوم، إلا أن تهمة التمييز تبقى فعالة أكثر من الدبلوماسية على الأقل إلى حمل صناع القرار في واشنطن على تعديل وتخفيف احتضانهم المطلق لإسرائيل.
ويأتي ذلك مع تزايد درجة النفور من السياسات الإسرائيلية لدى قطاعات هامة في أميركا، أبرزها القطاع الطلابي الجامعي الذي تبنت شريحة واسعة منه موضوع مقاطعة البضائع الإسرائيلية المصنعة في المستوطنات، وبما حمل السلطات في بعض الولايات على سنّ قوانين تحطر مثل هذه المقاطعة تحت طائلة الملاحقة القضائية.
وقد أعطى مثل هذا الرفض بعض ثماره على الصعيد السياسي، حيث فاز في الانتخابات النصفية الأخيرة خمسة نواب جدد، كان التزام تبني قضية إنهاء الاحتلال الإسرائيلي في صلب حملاتهم الانتخابية. قبل عقدين وأكثر، كان مجرد التداول بمثل هذه القضايا من المحرمات، خاصة بالنسبة إلى من يعمل في السياسة.
الرئيس بايدن يدرك هذا التحول الذي ما زال في بداياته. كما يدرك مثل غيره من أهل القرار أن الاصطدام بإسرائيل ممنوع. لكن مجيء اليمين الفاشي إلى الحكم في إسرائيل يضعه أمام اختبار جديد، يعطيه مساحة، ولو محدودة للتحرك. تغلب في الانتخابات النصفية على أقصى اليمين الأميركي فهل يقوى على لجم اليمين الإسرائيلي، رغم أن سوابقه لا تشجع؟