مصر... أين الشباب؟

28 أكتوبر 2016
+ الخط -
تساؤل غاية في الأهمية. ولكن من يمكنه الإجابة عليه؟ ستظل عقدة المنقلب ونظامه في مصر تقع في عدم قدرته على استيعاب الشباب الحقيقي في ثورة 25 يناير. اعتاد هذا النظام على اجتذاب (واصطياد) نوعية من الشباب، في إطار الإفساد، لا الاستيعاب الحقيقي القادر على استثمار هذه الطاقة الشبابية، في إحداث تغيير حقيقي يحقق آماله، ويستشرف مستقبلاً أفضل، يلامس أشواقه في شعاراتٍ هتف بها، ومثلت أمانيه له ولشعبه، عيش كريم وحرية أساسية وكرامة إنسانية وعدالة اجتماعية، وستظل عقدة نظام الثالث من يوليو وانقلابه أنه لا يُحسن إلا أسلوباً واحداً، تمثل في صناعة شباب "تمرد"، وتوظيفهم ضمن مصالحه في عملية إفساد كبرى تكشفت خيوطها ومآلاتها.
وظلت هذه العقدة تتعاظم ضمن رغبة النظام في صناعة قطيع من الشباب المدجّن ضمن عملية صناعة الزيف والتزوير، التي يمارسها، عملياتٍ لا يحسن غيرها مع خطابٍ شديد الخداع والمخاتلة، معظمه خطاب الديباجات الذي تعارف عليه عموم الناس، خطاب "نور عنينا"، الذي لا يملك إلا فائض الكلام، وبيع مزيد من الأحلام والأوهام. ولكن، ظلت مساحات من شباب الثورة تأبى أن تكون ضمن هذه الطريقة التي تختط حالة الزيف والتزييف، وصناعة مشهد شبابي ضمن حالة الزيف التي تقترن بتصنيع حالةٍ شبابيةٍ ديكورية، خصوصاً بعد رفض شباب الثورة الحقيقي أن ينخرط في أي عملٍ من شأنه أن يمرّر صناعة الزيف. كانت الانتخابات والاستفتاءات معامل كاشفة، ضمن مقاطعةٍ صامتةٍ، تعلن احتجاجها على طريقة المستبد في صناعة حالة القطيع وزيف المشهد الشبابي. إلا أنه واصل الطريقة نفسها التي لا يجيد غيرها، فلم يكن المؤتمر الشبابي الذي دعا إليه إلا واحدةً من حلقات الزينة الشبابية، أو أنماطاً من الشباب الذين يريدون ويرغبو، يرضون بأن يقوموا بهذه الأدوار التمثيلية في "معرض السيسي للشباب"، فهذا شبابٌ يحيط به في دار الأوبرا مرة، وفي اجتماعات أخرى مرات، في إطار يأخذ فيه اللقطة والصورة. إنها هدفه، اللقطة الزائفة والصورة المزوّرة، وها هو يتحدث عن عام الشباب، ولا بأس في كل مرة أن يبرز المشهد المصنوع والمفضوح، فيستعين ببعض الشباب من مادته التمثيلية القديمة، ويدعو بعض المثقفين ممن خانوا أدوارهم الحقيقية وأشواق الثورة ومطالب أهلها. وفي كل مرة، يأتي بجيش العواجيز، بعضهم تخطى الثمانين وبعضهم على أعتابها.
وينفتح الستار عن مشهدٍ مصطنع، شباب مزيف في معرض السيسي، وخطاب منافق في
وصلات متتالية، شديد التهافت، ومن أصحاب الشعر الأسود، وحوار مصنوع سابق التجهيز، يحمل المفردات نفسها، "كلنا وراك"، "متخفش إحنا معاك". وخطاب الوطنية الزائف "تحيا مصر"، حتى لو مات كل المصريين وأصبحوا معدمين. وتتوارد الكلمات، وبعد كل كلمة يعود الميكرفون إلى طبيب الفلاسفة، يتنحنح حينا ويتنهد، ويقسم كاذباً لأنه يردف قسمه بكلام غير معقول وغير مقبول، مشاهد تذكّرك بالتفاف الشباب حول جمال مبارك، في سنوات قليلة قبيل خلع أبيه، مشاهد التمثيل والمعرض والديكور.
في مسرحيةٍ شديدة التهافت، تحت عنوان عيد مخترع ومؤتمر مصطنع، على يد قاتل الشباب ومطاردهم ومعتقلهم، أسماه "عيد الشباب"، طرأ على ذهن عدو الشباب أن يحتفل بضحاياه، مرتدياً أقنعةً زائفةً لا تناسبه، فيداه تقطر بدمائهم، وسيرته تمتلئ بمسلسل جرائمه في حقهم. يصل، في هذا الاحتفال، إلى ذروة بجاحته وفجاجته، يتحدث عنهم وهو قاتلهم، وعن نهوضهم وهو مطاردهم، وعن فاعليتهم وهو ساجنهم ومعتقلهم، فيصطنع خلفيته في إطار مشهدٍ ساذج وتافه ومدبر. يحاول اصطناع اهتمامه بالشباب، لكنه تناسى خلفياتٍ أخرى في زوايا مشهده المصنوع والمصطنع، يقوم بعض رجالاته بتصفية ثلاثة من الشباب الطلاب بدم بارد، ويعتقل أحد أعضاء ألتراس، فيقتله بعد كلبشته، ويتوّج طغيانه وغدره وسفكه بقتل الطبيب، محمد عوض، في طريق عودته من المسجد إلى عيادته في خدمة الناس وحاجاتهم. القاتل والغادر بضحكته الصفراء المفضوحة يقتل الشباب، ويحتفل ويتحدث عنهم. أما ما يتعلق بالشباب، فإنه يتحدث، ليل نهار، عن أنه يهتم بالشباب، فأسفر هذا الاهتمام عن اعتقال الآلاف منهم، وإيداعهم في السجون، وصار الإنجاز الذي يمكن أن يباهي به عدد السجون التي أنشأها، حتى تستوعب مزيداً من الشباب، ويعبر عن فشل الإنجاز، حينما يتحدث من أنه حاول، من كل طريق، أن يستوعبهم. وحينما لم يستطع، اعتقلهم وقتلهم، إنه عام الشباب على طريقة السيسي، يعبّر فيه، من كل طريق، أن شباب مصر موضع اهتمامه، اهتمامه بالقتل والمطاردة والاعتقال.
وما معنى ذلك، وما قيمته، خصوصاً في وقتٍ رأينا فيه جميعاً كيف أن الشباب محبط، ويعطي الدولة ظهره، وقاطع المشاركة في معظم الاستحقاقات الانتخابية، فبدا المشهد مختصراً في
العجائز وكبار السن، خصوصاً من السيدات، ودوامة البطالة التي تلتهم، كل عام، عشرات آلاف الشباب، بسبب سياسات ...، ناهيك عن الملاحقات الأمنية المتواصلة للشباب، خصوصاً الشباب المؤيد والمتعاطف مع ثورة 25 يناير ...، وآلاف الشباب داخل السجون الآن، وهناك خطط جديدة، معلن عنها للتوسع في بناء السجون، لأن السجون الحالية اكتظت بساكنيها، ولم تعد تتحمل استقبال المزيد. ويعطي بناء السجون الجديدة الانطباع عن خطط مستقبلية، سيتسع فيها نظام "3 يوليو" الفاشي في مسار القمع والملاحقات الأمنية للمعارضين، ودوامات الفشل السياسي والانقسام الوطني، واتساع مساحات المعدمين والفقراء، فما معنى الحديث عن عام الشباب أو الثقة بالشباب في مؤتمر الشباب؟
إذا أردت إجابة حقيقية على "فين الشباب"، فلا تراهم في هؤلاء الذين أحضرتهم إلى شرم الشيخ في نزهةٍ وإعاشةٍ تكلفت ما يقارب الملايين الخمسة من الجنيهات، في "معرض السيسي للشباب". ولكن اذهب إلى مقابرهم، ومرّ عليهم في سجونك التي تتوسع فيها، ويسمى أحدها سجن المستقبل، وتفقد هؤلاء الذين اختطفتهم قسرياَ، وصفيتهم جسديا، واعرف حجم من طاردتهم وألجأتهم إلى المنافي، وهؤلاء الذين ماتوا غرقى في عرض البحر، بعد أن ضاقت بهم السبل، شباب تزهق روحه كل يوم بالتصفية الجسدية، في إطار تمكين الشباب في المقابر، أو بدفعه إلى الانتحار يأساً وإحباطاً. هذه رسالة السيسي الحقيقية للشباب، إعدام الأمل وإعدام الشباب، كياناً ووجوداً. إذا لم تكن تعرف الشباب فين؟، أو تتجاهل كل تلك المشاهد التي صنعتها، وظللت تنظر إلى معرضك المشؤوم الذي اصطنعته، فاسأل شباباً قاموا بعمل مؤتمر افتراضي. "الشباب فين"، أجواء تذكّرنا بإرهاصات يناير وإفلاس نظام.. فهل تأتي الثورة؟
دلالات
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".