الدّولة... متى تعتذر؟

14 ابريل 2015

تظاهرة في تونس ضد عودة النظام السابق (20 نوفمبر/2012/الأناضول)

+ الخط -

الدّولة المسؤولة في البلدان المتقدّمة لا ترى حرجاً في مراجعة سياساتها، وتطوير مناهج تفاعلها وآليّات تواصلها مع المحكومين، ولا ترى مانعاً من الاعتذار لمواطنيها، متى وجب ذلك. والمشهود، في أغلب دول الانتقال الدّيمقراطي، أنّ الدّولة الجديدة تسعى، ما استطاعت، إلى بلورة مشروع مصالحة ممكنة بين الحاكم والمحكوم، فتعترف بما ارتكبته أجهزتها الأمنيّة والإداريّة من مخالفات إزاء المواطن، في حقب سابقة موسومة بالاستبداد، وقائمة على القمع والاستئثار بالسّلطة لصالح جهة معيّنة. والواقع، في تونس، أنّ الدّولة بشخصيّتها الرّمزيّة، وبأجهزتها السياديّة، وكينونتها الاعتباريّة، لم تفكّر بعدُ في فتح ملفّات الماضي الاستبدادي، زمن الحبيب بورقيبة أو المخلوع زين العابدين بن علي، فقد راح ضحيّة النظام الأحاديّ القامع آلاف التونسيّين الذين توزّعوا بين السّجون والمنافي، وبين القبور والفيافي. ومنهم من توقّف مسار حياته سنين عدداً، فبقي في النّقطة الصّفر مهنيّاً ودراسيّاً واجتماعيّاً، فلا أهل ولا وطن ولا زوج ولا سكن، ومنهم من حُرم من العمل والنّجاح ومن السّفر، فكانوا كالأموات، ولكن بلا قبور! كانوا يعانون التّهميش والظّلم المنهجي المسلّط من الديكتاتور وأتباعه، فحُرم الآلاف الرّزق، ومن جواز السّفر، ومن زيارة الأحبّة و"ترامتهم العشيرة كلّها وأُفردوا إفراد البعير المعبّد..."، لا لشيء، إلاّ لرأي رأوه، لم يرُق لـ "سيّد الأسياد" أو لـ "حامي الحمى والدّين"، ولم يعجب تُبَّع السّلطان، فسلّطوا على قوم مسالمين شرّ العذاب، منعوهم من نور الشّمس، ومن لذّة النّوم في هدأة اللّيل، ومن حقّ مواصلة الدّراسة وبناء الأسرة... كان سجناء الرّأي مواطنين من درجة خامسة، وكانوا كائنات تُنعت بالأصابع، فلا يُشرب من مائهم، ولا يُؤكل من مائدتهم، ولا يُمشى في جنازتهم، ولا تُلقى عليهم التحيّة، ولا يُؤمن جانبهم... كأنّهم جاءوا من كوكب آخر، فكانوا يخرجون من زنزانة السّلطان إلى سجن أكبر، هو مجتمع مسكون بالخوف من الدّولة البوليسيّة، أو محكوم بهاجس التشفّي، حتّى أصبح النّضال تهمة، بل مهلكة ذات مهواة بلا نهاية.

صادروا أصواتهم وحاصروهم، وكبلوهم، فقط لأنّهم قالوا: لا للدّولة الاستبدادية، لا لسرقة أموال الشّعب، لا لمنع حرّية التّفكير والتنظّم، لا لثقافة الانبتات عن الهويّة. عانوا في صمت، ولم يلتفت إليهم إلاّ القليل، ولم تأخذ بأيديهم إلاّ ندرة من النّاس. عائلات بحالها شُرّدت، تمزّقت، وتوزّعت في الآفاق. أمراض وآلام وأحلام مسروقة، كيانات موؤودة، ولا أحد يهتمّ!! كانوا من خيرة أبناء الخضراء، علماً وعملاً وخلقاً. هم لم يأتوا من خارج التّاريخ، بل نبتوا من رحم التّاريخ، وعبّدوا الطريق إلى الحرّية. كانوا من مختلف أطياف المجتمع التّونسي، منهم المتأدلج، ومنهم غير المتأدلج، ومنهم المتدين ومنهم غير المتديّن. اختلفوا في الرّؤية والنّهج، واتّفقوا في الهدف: تحرير تونس من سطوة المستبد وعصابته، فكانوا في العذاب سواء، وفي حبّ هذا البلد الجميل سواء. عندما كان أصحاب الكراسي الوثيرة، وأصحاب البطون المندلقة والبدلات الأنيقة، قبل الثّورة وبعدها، يتلهّون بالصّمت أو بالتّصفيق للدّيكتاتور وأعوانه، كان سجناء الرّأي يصرخون في معتقلات "برج الرّومي" و"النّاظور" ودهاليز "الهوارب" ومفازات "حربوب" و"رجيم معتوق"، كانوا يُفتّشون عراة ويمشون حفاة، وينامون أكداساً مكدّسة تحت أسرّة مكتظّة، وفي غرف بلا ماء وبلا شمس وبلا هواء نقيّ. كانوا يبيتون بلا عشاء، أو يتعشّون حساء بلا طعم وبلا رائحة، وكان سوط الجلاّد لا يبرح جلودهم بين ليلة وأخرى. وفي الأثناء، كانوا يحلمون بلقاء أمّ شارفت على الموت، أو أب تقطّعت به السّبل، وعزّ به لقاء وليده المبعد بعيداً بعيداً داخل الوطن أو خارجه. وعلى الرغم من ذلك كلّه، كانوا يحلمون بغد تشرق فيه شمس الحرّية، ينتصفون من الظّالمين، ويُعاد لهم فيه الاعتبار. وكانت الثّورة، وكان الأمل في تحقيق المراد، لكن هيهات. ذهبت الأحلام أدراج الرّياح، وظلّ سجناء الرّأي، إلى حدّ الآن، في أسفل سلّم أولويّات الحكومات الانتقاليّة في هذا البلد. وفي الأثناء، تُقام نصب تذكاريّة لمستبدّ رحل، وتُقام منادب على مخلوع هرب، وتعلو أصوات المتهافتين على الثّورة و"الخائفين على ميزانيّة الدّولة"، والمزايدين على المناضلين في سنوات الجمر، يريدون حرمان مساجين الرّأي من استئناف حياتهم، وجبر ما لحق بهم من ضرر.

لهؤلاء المتسلّقين أقول: كفاكم مزايدة، لأنّكم لم تجرّبوا السّجن يوماً، ولم تتوقّف حياتكم يوماً، ولم تُحرموا من نور الشّمس يوماً، ولم تبيتوا وبطونكم خاوية يوماً، ولم يُفسد عليكم البوليس لذّة النّوم يوماً، ولم تعرفوا وخز الصّاعق الكهربائي يوماً، ولا أشكال التّعذيب والهرسلة والظّلم والقهر وقطع الأرزاق على عهد الدّولة القامعة.

اعتذرت ألمانيا لما ارتكبته من انتهاكات إزاء مواطنيها في الحقبة النازيّة، وكذا فعلت تركيا مع الأكراد وأستراليا مع سكّانها الأصليّين، وجنوب إفريقيا مع ضحايا التمييز العنصري، وكذا فعل المغرب مع سجناء الرّأي في حقبة مضت، وأحرى بالدّولة التونسيّة، اليوم وليس غداً، أن تعيد إلى ضحايا الاستبداد اعتبارهم، وتردّ إليهم حقوقهم، وتجبر ضررهم، وتعتذر لهم، عسى أن ينصلح الحال، وتُطوى صفحات الماضي الأليمة، وإلاّ سيظلّ الجرح غائراً، وسيظلّ مشروع المصالحة الوطنيّة والعدالة الانتقاليّة في مهبّ الرّيح.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.