في تداعيات الهجرة غير النظامية على تونس

18 مايو 2024

(إبراهيم الصلحي)

+ الخط -

باتت الهجرة غير النظامية قضية إشكالية تُضاف إلى أزمات تونس العديدة في السنوات الأخيرة، وتؤرّق النظام الحاكم، وتثير حفيظة طيْفٍ معتبرٍ من المواطنين، في ظلّ تدفّق آلاف المهاجرين القادمين من دول أفريقيا جنوب الصحراء إلى تونس، بطرق غير قانونية، وانتشارهم بشكل عشوائي في الحقول والغابات والمناطق الطرفية، وشوارع بعض القرى والمدن التونسية، بعد أن تقطّعت بهم السبل وقطعوا آلاف الأميال في رحلة طويلة شاقّة نحو السواحل التونسية، التي أصبحوا يعتبرونها نقطة انطلاقهم المفضّلة نحو أوروبا، لقربها من جزيرة لامبيدوزا الإيطالية، وذلك بعد أن أُغلقت أمامهم المنافذ البحرية المغربية نحو إسبانيا، وبعد أن باتت الهجرة السرية إلى أوروبا عبر الأراضي الليبية مغامرةً محفوفةً بالمخاطر، وغير مأمونة العواقب.

وبحسب ما نقلته وكالة نوفا عن وزارة الداخلية الإيطالية، بلغ عدد الواصلين إلى إيطاليا انطلاقاً من السواحل التونسية 92 ألفاً و844 مهاجراً غير نظامي، بداية من يناير/ كانون الثاني إلى نهاية أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وتفيد أرقام جهاتٍ تونسيةٍ بأنّ الحرس البحري اعترض زهاء 70 ألف مهاجر سرّي، وحال دون وصولهم إلى الضفّة الأوروبية خلال سنة 2023. وأشارت مديرة مكتب تونس في مؤسّسة هاينريش بول، هايكه لوشمان، إلى أنّ نحو "80 ألف مهاجر من دول جنوب الصحراء الكبرى ينتظرون في مزارع الزيتون، جنوبي محافظة صفاقس، تحسّن الطقس ليتّجهوا قِبلة أوروبا".

والثابت أنّ الجهات الأمنية التونسية تبذل جهوداً كبيرةً للحدّ من موجات الهجرة غير النظامية نحو أوروبا. فقد أشار المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية إلى أنّ السلطات التونسية أحبطت 600 محاولة للهجرة السرية في عام 2023، ومنعت ثمانين ألف مهاجر من بلوغ ضفاف القارّة الشقراء. وأحبطت، خلال إبريل/نيسان الماضي، 209 عمليات اجتياز كانت أغلبها بحراً، ومنعت 8249 مهاجراً غير نظامي، أغلبهم من جنسيات غير تونسية بنسبة 90%، من الوصول إلى الضفة الإيطالية انطلاقاً من تونس. وبحسب بيانات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فقد اعترضت قوات خفر السواحل التونسية، منذ بداية العام حتّى منتصف إبريل/ نيسان (2024)، أكثر من عشرين ألفَ مهاجرٍ قبل عبورهم صوب السواحل الأوروبية. وتستجيب تونس في هذا الخصوص لمحامل اتفاقيات أبرمتها مع الحكومة الإيطالية والاتحاد الأوروبي لمكافحة الهجرة، وضبط شبكات المُهرّبين، وشمل العرض الأوروبي منح تونس مساعدةً ماليةً طويلةَ الأمد بقيمة 900 مليون يورو، و150 مليون يورو تصرف فوراً من الميزانية، وحزمةً بقيمة 105 ملايين يورو لإدارة الهجرة، وتعزيز ضبط حدودها البرّية والبحرية.

لا تتوفّر السلطات التونسية على قاعدة بيانات شاملة حول المهاجرين غير النظاميين الوافدين إلى البلاد، ولا تمتلك معلومات دقيقة بشأن عددهم، وهوياتهم، وجنسياتهم

واللافت، بحسب مراقبين، أنّ السلطات التونسية لا تتوفّر على قاعدة بيانات شاملة بشأن جلّ المهاجرين غير النظاميين الوافدين إلى البلاد، ولا تمتلك معلومات دقيقة بشأن عددهم، وهوياتهم، وجنسياتهم، ومسارات دخولهم البلاد، وأوضاعهم الصحّية والمهنية، وخلفيات اختيارهم الوجهة التونسية. كما لا تمتلك استراتيجية واضحة المعالم للإحاطة بهم من النواحي الإغاثية، واللوجستية، والإنسانية. وتكتفي الجهات الرسمية التونسية، حالياً، بتدبير مسألة الهجرة غير النظامية من منظور أمني، من خلال تعقّب المهاجرين غير الشرعيين، ومحاصرتهم، ومنع نفاذهم إلى دول الشمال، والعمل على تدويرهم من جهة إلى أخرى في الداخل التونسي كلّما توتّرت العلاقة بينهم وبين السكّان المحلّيين. ولم يتجاوز عدد المهاجرين غير النظاميين الذين قبلوا مغادرة تونس طوعاً نحو بلدانهم حدود 2500 مهاجر منذ بداية العام الحالي، في حين يصرّ آخرون على عدم التصريح بهوياتهم، ورفض مغادرة تونس، ويتحيّنون الفرصة لتجريب الهجرة السرّية من جديد. وتبدو أوروبا الرابح الأكبر من أمننة الهجرة غير النظامية، وتصدير حدودها نحو تونس، التي غدَت بمثابة الجدار العازل للهجرة غير القانونية نحو القارّة الشقراء. في المقابل، فإنّ الأوضاع في تونس تزداد تعقيداً في ظلّ محدودية الإمكانيات الذاتية، وتوافد آلاف المهاجرين، الذين تسللوا إلى البلاد عبر الحدود البرية، أو أُرجعوا من عرض البحر نحو الداخل التونسي، وغدوا كتلةً بشريةً مُبعثرةً، تكبر من يوم إلى آخر، ولامتدادها العشوائي وغير المنظّم تداعيات عدّة على الاجتماع التونسي.

يخشى مراقبون أن يُستغَل الوضع الهشّ لبعض المهاجرين في استقطابهم ضمن جماعات مُتطرّفة، خصوصاً أنّ بعضهم قادمٌ من بؤر التوتّر

من الناحية الاجتماعية، تثير مسألة توافد عدد كبير من المهاجرين غير النظاميين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء على تونس مشكلة إدماجهم في النسيج المجتمعي المحلّي. فدخول هؤلاء البلاد بطريقة غير شرعية جعلهم محلّ شبهة في نظر معظم المواطنين الذين يعتبرونهم غرباء، بل دخلاءَ على البلد. كما أنّ قيام بعض المهاجرين لنصب خيامهم بطريقة عشوائية أمام مؤسّسات عمومية أو في حقول بعض الفلاّحين، وإتلافِهم المحاصيل الزراعية، واستيلائهم على بعض الممتلكات الخاصّة، ساهم في توتير العلاقة بينهم وبين السكّان المحلّيين. وبلغ الاحتقان بين الجانبين أحياناً درجةَ تبادل العنف. ففي الثالث من يوليو/ تمّوز 2023، أقدم أحد المهاجرين غير النظاميين في محافظة القصرين على قتل شابٍّ تونسي إثر مشاحنة بينهما، وهو ما أدّى إلى اندلاع احتجاجات وتظاهرات نظّمها السكان المحلّيون في مدن مختلفة، رافعين شعارات تُطالب بطرد المهاجرين غير النظاميين من تونس. وكشف وفد برلماني زار مدينتي العامرة و جبنيانة، في محافظة صفاقس، أنّ مركز الحرس الوطني بالعامرة يتلقّى يومياً ما معدّله 20 شكاية من مواطنين محلّيين تتعلّق بانتهاكات عامّة وخاصّة، ارتكبها مهاجرون غير نظاميين في حقّهم. وقد أورث تكاثر عدد المهاجرين غير النظاميين، وانتصابهم العشوائي، وسلوك بعضهم العنيف، إلى شعور طيف مُعتبر من المواطنين بالضيم وعدم الأمان. وأدّى ذلك عملياً إلى تنامي مشاعر الكراهية ضدّ الوافدين الأفارقة غير النظاميين. وينذر ذلك المستوى من التوتّر بتهديد السلم الاجتماعي.

اقتصادياً، تعاني تونس من محدودية مواردها المالية وثرواتها الطبيعية (الغاز، والنفط، والماء، والكهرباء)، ومن نقصٍ فادحٍ في مواد أساسية مثل الحبوب، والزيت النباتي، والدقيق، والسكّر، والأرز... إلخ. ومعلومٌ أنّ توافد أعدادَ كبيرةٍ من المهاجرين بطريقة غير شرعية أدّى عمليّاً إلى توسيع قاعدة المُستهلِكين، وإلى اختلال التوازن بين العرض والطلب على نحو ساهم في ارتفاع الأسعار، وأثّر سلباً على المقدرة الشرائية لجلّ التونسيين. يضاف إلى ذلك أنّ جلّ المهاجرين غير النظاميين يتمركزون في المدن الاقتصادية الأربع الكبرى (صفاقس وسوسة ونابل وتونس)، ويعملون أساساً في القطاعات الفلاحية والخَدَمية، ويتقاضون أجوراً مُتدنّية، وهو ما أدّى، حسب بعض المُحلّلين، إلى تقليل فرص التشغيل بالنسبة إلى السكّان المحلّيين، في بلد بلغت فيه نسبة البطالة 16.2% خلال الثلاثي الأول من سنة 2024، ويقدّر فيه عدد العاطلين عن العمل بـ669.3 ألفاً، بحسب المعهد الوطني للإحصاء. كما أنّ بعض المهاجرين غير النظاميين، في ظلّ هشاشة أوضاعهم المادية والنفسية والقانونية، انخرطوا في شبكات التهريب والاقتصاد الموازي، ويؤثّر ذلك سلباً على الدورة الاقتصادية الرسمية، ويقلّل من الإيرادات الضريبية لخزية الدولة التونسية.

أمنياً، يساهم عبور آلاف المهاجرين غير النظاميين إلى تونس برّاً وبحراً، في وقت متزامن أحياناً، في تشتيت جهود القوّات المسلّحة التونسية، التي تجد نفسها تعمل في جبهات شتّى، من بينها ضبط الحدود البرية والبحرية، ومكافحة شبكات التهريب والجريمة المنظّمة، والاتجار بالبشر، ووضع حدّ لأعمال العنف بين المهاجرين غير الشرعيين أو بينهم وبيْن الأهالي. كما أنّ وجود المهاجرين، بطريقة غير شرعية، في تونس يزيد من صعوبة حصولهم على عمل مُجز، وقارّ، وهو ما يجعل احتمال ارتكابهم أعمال سرقة ونهب وتحيّل وعنف لتحصيل المال أمراً وارداً. ولا يستبعد انخراط بعضهم في شبكات ترويج المُخدّرات، ويخشى مراقبون أن يُستغَل الوضع الهشّ لبعض المهاجرين في استقطابهم ضمن جماعات مُتطرّفة، خصوصاً أنّ بعضهم قادمٌ من بؤر التوتّر التي تتمركز فيها جماعات مُتشدّدة أو من بلدان تشهد حروباً أهلية ضارية.

دخول هؤلاء المهاجرين البلاد بطريقة غير شرعية جعلهم محلّ شبهة في نظر معظم المواطنين، الذين يعتبرونهم غرباء، بل دخلاءَ على البلد

حقوقياً، وفي ظلّ تقصير المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في تأمين الرعاية الشاملة للمهاجرين غير النظاميين، تتهم جهاتٌ حقوقيةٌ السلطاتِ التونسيةَ بسوء معاملتهم، وعدم توفير ملاجئ لهم، وعدم تطوير المنظومة التشريعية المُتعلّقة بهم، ودفعهم إلى مغادرة البلاد أو تركهم إلى مصيرهم، وهو ما تنفيه الجهات الرسمية التونسية.

سياسياً، يرى ملاحظون أنّ النجاح في إدارة معضلة الهجرة غير الشرعية من عدمه يؤثّر في مدى شعبية الرئيس قيس سعيّد، وحظوظه في الفوز بالاستحقاق الانتخابي الرئاسي في 2024. خارجياً، يذهب مراقبون إلى أنّ تونس قد تنجح في كسب ودّ الاتحاد الأوروبي بعملها على تأمين حدوده الجنوبية من أفواج المهاجرين غير النظاميين. لكنّها في المقابل ستكابد تداعيات عبورهم أو بقائهم العشوائي في تونس. وقد تخسر علاقاتها ببعض الدول الأفريقية، التي أصبحت تعتبر تونس "دولة طاردة للمهاجرين"، وترميها بشبهة "ممارسة العنصرية ضدّ الأفارقة".

ختاماً، أحرى بأوروبا أن تدرك أنّ عسكرة سواحل المتوسّط لن يحلّ معضلة الهجرة غير النظامية، وأنّ الحلّ يبدأ بتمكين الأفارقة من إدارة ثرواتهم ومساعدتهم على بناء نظام حكم ديمقراطي رشيد. وإن لم يكن، فستتواصل جحافل الهجرة السرّية نحو دول شمال المتوسّط لا محالة.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.