عن مستقبل "النهضة" في تونس

19 يونيو 2024

مقر حركة النهضة في العاصمة تونس (20/4/2023 الأناضول)

+ الخط -

مرّت الذكرى الثالثة والأربعون لتأسيس حركة النهضة التونسية ذات المرجعية الإسلامية في صمت، وفي أجواء من اللايقين، تعتري جلّ أنصار الحركة. ولم يتجاوز إحياء ذكرى التأسيس حدود إصدار بيان، وقّعه الأمين العام الجديد للحركة، العجمي الوريمي، وتضمّن نقدا لسياسات المنظومة الحاكمة في تونس بعد 25 يوليو/ تموز 2021، ومطالبة بإطلاق سراح المعتقلين على خلفيات سياسية، ودعوة إلى توحيد الأحزاب المعارضة تحت سقف الحدّ الأدنى من المشترك الديمقراطي، وتجاوز المناكفات الإعلامية والأيديولوجية. وغاب المشهد الاحتفالي عن استحضار ذكرى التأسيس، بسبب إغلاق السلطات مقرّات الحركة في كامل تراب الجمهورية منذ نحو عام، وحبْس رئيسها راشد الغنوشي، وقيادات من الصف الأوّل فيها، منهم علي العريّض، ونور الدين البحيري، وعبد الكريم الهاروني، وعبد الحميد الجلاصي، والحبيب اللوز، والصحبي عتيق، وأحمد المشرقي، وغيرهم، وتوجيه تهم خطيرة لهم، من قبيل تهديد السلم الاجتماعي، وتسفير شباب إلى بؤر التوتّر، والتآمر على أمن الدولة، وهي تهم نفتها الهيئة التسييرية لحركة النهضة بشدّة. ويرى مراقبون أنّ الحركة تعيش بعد إزاحتها من الحكم محنة حقيقية، ومستقبلها على المحكّ، ومصيرها رهين أربعة سيناريوهات محتملة: احتمال دخولها في صدام مباشر مع النظام الحاكم ما قد يؤدّي إلى حلّها، إمكان تفكّكها ذاتيا، محافظتها على كيْنونتها باعتبارها حزبا معارضا وازنا، احتمال احتوائها وحصول تسوية بيْنها وبيْن الرئيس قيْس سعيّد.

راهن كثيرون داخل تونس وخارجها، غداة حدوث حركة 25 يوليو (2021)، وإعلان رئيس الجمهورية جملة من التدابير الاستثنائية التي أفضت إلى غلق البرلمان، وحلّ الحكومة، وعدة هيئات مدنية، وإلغاء دستور الثورة، على إمكان دخول "النهضة" في صدام مباشر مع المنظومة الحاكمة الجديدة باعتبارها كانت ركنا متيناً من أركان الحكم في عشرية الانتقال الديمقراطي، وساهمت في صياغة جلّ مخرجاتها، ومعظم مؤسّساتها، وباعتبارها قد فقدت حضورها الوازن في البرلمان والحكومة على السواء. وعملت أبواق إعلامية تونسية وعربية على تأجيج الأزمة السياسية في البلاد، وتغذية خطاب التحريض والتنافي بيْن أنصار مسار25 يوليو، وأنصار حركة النهضة، ونشطت أحزابٌ علمانية من اليمين واليسار في تأجيج الصراع بين الجانبيْن، وتعميق الاستقطاب بينهما. فيما وقفت أحزاب كثيرة على الربوة، مكتفية بدور المتابع البارد الذي يعتبر ما حصل بعد "25 يوليو" مجرّد معركة شخصية بين سعيّد والغنوشي، ومجرّد صراع على النفوذ والصلاحيات بينهما. وتقمّصت أحزاب أخرى دور المشاهد السادي الذي كان يستلذّ باحتدام النزاع بين أنصار رئيس الجمهورية وأنصار رئيس البرلمان المنحلّ، ويتحيّن الفرصة لتصفية الطرفين والانقضاض على الحكم بطريقة ما.

تمكّنت حركة النهضة بمعية شركائها في المعارضة، من ترويج داخليا وخارجيا، اعتبار ما حصل يوم 25 /07/2021 انقلابا على الدستور، لا تصحيحاً لمسار الثورة

وفي ظلّ ذلك الوضع المتوتّر، بدا أنّ حركة النهضة لزمت سياسة ضبْط النفس، ورفضت الانزلاق إلى مواجهة دامية مع النظام الحاكم. وحرصت على تنظيم أنشطة احتجاجية سلمية تعبيرا عن اعتراضها على مسار 25 يوليو ومخرجاته. وذهبت وجوه قيادية في الحزب إلى أنّ الدفاع عن الديمقراطية ليس مسؤولية حصرية لحركة النهضة. بل هو شأنٌ يهمّ عموم مكوّنات المجتمع المدني. وساهم ذلك النهج في حفاظ حركة النهضة على نواةٍ شعبيةٍ معتبرة، مناصرة لها، وجنّبها مساوئ الدخول في صدامٍ غير محسوب العواقب مع المنظومة الحاكمة، واعتبرت الجماعة في هذا الخصوص من تجربة الإخوان المسلمين ومآلاتها الفاجعة، وتفادت استعادة السناريو المصري حفاظا على السلم الاجتماعي، وضمانا لاستمرارية الحركة على كيْفٍ ما في هذا الزمن السياسي الصعب.

وفي سياق متّصل، ظلّ تفكيك حركة النهضة من الداخل خطراً يتهدّد الحزب الأكثر شعبية في البلاد بحسب استطلاعات الرأي، فخلال ممارسة تجربة الحكم وبعدها ظهرت بوادر انشقاقٍ عن الحركة، وسحب بعض قيادييها عضويّتهم من المكتب التنفيذي أو السياسي للحركة أو من مجلس الشورى التابع لها. ونشطت حركة الاستقالات بعد أن رفض الغنّوشي إعادة توزير بعض قيادات الحركة في حكومات الحبيب الجملي، وإلياس الفخفاخ، وهشام المشيشي. وتعالت وتيرتُها مع إزاحة الحركة عن سدّة الحكم، وتضاؤل إمكان قيادتها البلاد مجدّدا. فقد قدّم 131 عضوا فيها، بينهم قيادات مركزية وجهوية وأعضاء في مجلس الشورى وأعضاء في البرلمان المنحلّ، استقالاتهم احتجاجا على ما وصفوه بـ"الإخفاق في معركة الإصلاح الداخلي للحزب"، وبرّروا قرارهم بـ"الخيارات السياسية الخاطئة لقيادتهم"، ما أدّى في تقديرهم إلى "عزلة الحركة وعدم نجاحها في مقاومة الخطر الاستبدادي الداهم" للتدابير الاستثنائية التي وضعها الرئيس قيس سعيّد. ومع أهمّية تلك الاستقالات، فإنّها لم تؤثّر عمليّاً في انتشار حركة النهضة، ولم تنجح في استنزاف رصيدها الشعبي أو إنشاء جسم سياسي بديل عنها أو منافسٍ لها. وقد حاول قياديون منشقّون عن حركة النهضة تأسيس أحزاب موازية لها (من الأمثلة حزبا "البناء الوطني" بقيادة رياض الشعيبي سابقا، و"العمل والإنجاز" بقيادة عبد اللطيف المكّي حاليا). لكنّ تلك التجارب الحزبية، على أهمّيتها، لم تجد التجاوب المأمول من الجمهور، فقد ظلّت ظلاّ لحركة النهضة. ومن المستبعد أن تنجح في استقطاب الناس مستقبلاً. كما أنّ اعتقال قيادات الصف الأوّل في حركة النهضة لن يؤدّي، بحسب مراقبين، إلى تفكّكها، بل سيزيد من التفاف حاضنتها الشعبية حولها. وقد تمسّكت الجماعة برابطتها العقائدية وخلفيتها الأيديولوجية زمن الأزمة، فجرى تحويل المحنة إلى منحة، وجرت استعادة ملفّ المظلومية على نحوٍ زاد نسبيا في شعبية الحركة، بحسب مراقبين.

ذهب مراقبون إلى أنّه كان في وسع "النهضة" الانخراط في العملية السياسية الجديدة والعمل على إصلاحها ونقدها وتغييرها من الداخل بدل اعتزالها

ونجحت "النهضة" نسبيّاً بحسب مراقبين في تصدّر منظومة المعارضة السلمية لحركة 25 يوليو (2021)، رغم ما تعيشه الحالة الحزبية في تونس من ضمور، ورغم ما تعرّض له قادتها من اعتقال، ومنع من السفر، وخضوع للإقامة الجبرية. وساهمت حركة النهضة، من خلال انخراطها الفاعل في جبهة الخلاص الوطني، في تحشيد الشارع ضدّ عدة تدابير رئاسية (غلق البرلمان المنتخب، حلّ المجلس الأعلى للقضاء والهيئة العليا لمراقبة دستورية القوانين، إلغاء الدستور، تعديل القانون الانتخابي، تغيير تركيبة الهيئة المستقلة للانتخابات، فرض الأمر117، والمرسوم عدد 54 ...). وتمكّنت، بمعية شركائها في المعارضة، من ترويج داخليا وخارجيا اعتبار ما حصل يوم 25 /07/2021 انقلابا على الدستور، لا تصحيحاً لمسار الثورة. كما أقدم الحزب وحلفاؤه على مقاطعة الاستشارة الرئاسية، والاستفتاء على الدستور، وانتخابات البرلمان بغرفتيه، وأثّر قرار المقاطعة في نسبة المشاركة العامّة في الاستحقاقات الانتخابية التي كانت ضعيفة. لكنّ المقاطعة لم تمنع الرئيس قيس سعيّد من المضيّ في تنفيذ أجندته وتحقيق مشروعه السياسي. ولذلك ذهب مراقبون إلى أنّه كان في وسع حركة النهضة الانخراط في العملية السياسية الجديدة والعمل على إصلاحها ونقدها وتغييرها من الداخل بدل اعتزالها تماما.

أمّا سيناريو احتمال احتواء حركة النهضة وتطبيعها مع النظام الحاكمن فإن أصحابه يستحضرون تجارب احتواء أحزاب ذات مرجعية إسلامية في عدّة بلدان عربية، مثل الجزائر، والمغرب، والكويت، والأردن، ولبنان، والعراق، وتأمين انتظامها في المجال العام وفي دوائر الحكم بأشكال متفاوتة. ويراهن هؤلاء في السياق التونسي على أن إذابة الجليد بيْن قيس سعيّد وراشد الغنوشي تبقى ممكنة، رغم ما استجدّ من خلافات وخصومات بينهما على خلفية النزاع على مربّعات الصلاحيات والنفوذ. ويعوّلون في ذلك على أنّ سعيّد شخصية سياسية، قومية، محافظة تلتقي مع حركة النهضة في نقاط مهمّة، من قبيل تجذير الانتماء إلى الهوية العربية والإسلامية، والدفاع عن القضية الفلسطينية، واعتماد المرجعية الدينية في مسألة الميراث، والانتصار للثورة. كما أنّ لحركة النهضة سابقة في دعم قيس سعيّد واعتباره العصفور النادر خلال رئاسيات 2019. وقد كانت أصوات أنصارها حاسمة في فوز الرجل بأغلبية مريحة في الدور الثاني من تلك الانتخابات. وقد يُستعاد ذلك التوجّه في رئاسيات 2024 في حال التوصّل إلى تسوية بين قيس سعيّد وحركة النهضة. ويحتاج تحويل هذا السيناريو من احتمال إلى واقع منجز التحلّي بكثير من البراغماتية، والواقعية، والمرونة، والتواضع، وتقدير الصالح العام من الجانبيْن.

ختاما، يتحدّد مستقبل حركة النهضة ذات المرجعية الإسلامية، وغيرها من الأحزاب التونسية المعارضة، في هذه اللحظة الدقيقة من تاريخ تونس بمدى قدرتها على ممارسة النقد الذاتي، والتكيّف مع مستجدّات الراهن التونسي وتحدّياته، وبمدى استعداد المنظومة الحاكمة للقبول بالغيْرية السياسية وإدارة الشأن العام بشكل تشاركي. ومعلوم أنّ ثقافة الاختلاف قوام العمران الرشيد.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.