في خسارة الإدارة الأميركية الرأي العام العربي

01 يوليو 2024
+ الخط -

علّق كثيرون من العرب والمسلمين آمالاً عريضةً على صعود جو بايدن إلى كرسيّ رئاسة الولايات المتّحدة، مُنذ 20 يناير/ كانون الثاني 2021. وظنّوا أنّه سيكون عنوانَ سلام في المنطقة، وسيعمل على الحدّ من سياسات الغطرسة الإسرائيلية، وإقرار حلّ عادل للقضية الفلسطينية، بالتوازي مع دعم مشروع الديمقراطية في العالم العربي، وذلك باعتبار بايدن عضواً في الحزب الديمقراطي، ونقيضاً للرئيس الجمهوري، اليميني السابق دونالد ترامب، وسبق أن حصل على وسام الحرّية عام 2017، وشغل منصب نائب رئيس الولايات المتّحدة الـ47 من عام 2009 إلى 2017، إبّان حكم الرئيس باراك أوباما، ومعروف بميوله الديمقراطية، وبمعارضته حرب الخليج الأولى في 1991، وتأييده انسحاب القوات الأميركية من العراق عام 2011، ورفضه إرسال تعزيزات عسكرية إلى أفغانستان عام 2009. لكن ما يبدو، بعد مضي ثلاث سنوات ونصف السنة من إشراف الرئيس بايدن على الإدارة الأميركية، بحسب مُراقبين، أنّ شيئاً من تلك الآمال لم يتحقّق. فحركة الربيع العربي آلت إلى الانحسار، وجرى غلق قوس الديمقراطية في معظم البلدان العربية، ولم تتغيّر السياسة الخارجية الأميركية في انحيازها المطلق للسياسات الإسرائيلية في المنطقة. وقد أدّى ذلك النهج إلى نفور الرأي العام العربي من الإدارة الأميركية، وإلى تنامي مشاعر الإحباط والإحساس بالغضب في الشارع العربي إزاء سياسات واشنطن.
ومثّل تفاعل الإدارة الأميركية الحالية مع عملية طوفان الأقصى، وانخراطها في موجة تأييد عارمة لإسرائيل إعلامياً، وسياسياً، ولوجيستياً، واقتصادياً، وعسكرياً، في مقابل إدانتها فصائلَ المقاومة الفلسطينية، عاملاً حاسماً، بحسب استطلاعات رأي موثوقة، في تراجع شعبية واشنطن في الداخل العربي، وفي تنامي مشاعر الكراهية ضدّ سياساتها. ولذلك تجلّيات عدّة وتداعيات جمّة. من المفيد الإشارة، أولاً، إلى أنّ القضيّة الفلسطينية قضيّة جامعة، يلتقي عندها جُلُّ العرب على اختلاف انتماءاتهم الأيديولوجية والفكرية والدينية والجهوية والطبقية. ويلتفّ حولها الحاكم والمحكوم على حد سواء. وفي هذا السياق، أفاد استطلاع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بعنوان "اتجاهات الرأي العام العربي نحو الحرب الإسرائيلية على غزّة" بأنّ 92% من المستجوبين العرب يعتبرون القضيّة الفلسطينية "قضيّة جميع العرب، وليست قضيّة الفلسطينيين وحدهم"، وعبّر 97% عن أنّهم يشعرون بضغط نفسي (بدرجات متفاوتة) نتيجة للحرب على غزّة، بل إنّ 84% قالوا إنّهم يشعرون بضغط نفسي كبير. وقد أفاد نحو 80% من المُستطلَعين أنّهم يداومون على متابعة أخبار الحرب، وعبّر 92% عن تضامنهم مع الشعب الفلسطيني في محنته، وعن إدانتهم الانتهاكات الإسرائيلية لحقوقه. وأخبر ذلك بأنّ القضية الفلسطينية جزء من المشترك القومي والوجودي العربي، وهي قضية مركزية راسخة في الوعي الجمعي عبْر الزمان والمكان وتعاقب الأجيال. وبناءً عليه، الموقف من القضيّة الفلسطينية عموماً، ومن الحرب على غزّة خصوصاً، ومدى الإقرار بحقوق الشعب الفلسطيني التاريخية والمشروعة في الحرّية، والكرامة، والعدالة، والعودة، وبناء الدولة، وتقرير المصير، هي معايير أساسية يعتمدها جُلُّ العرب في تحديد مواقفهم من سياسات هذه الدولة أو تلك.

تابع المواطن العربي السياسات الأميركية المُبالِغة في انحيازها إلى إسرائيل، في زمن معولَم ومُرقمَن، وخلّف ذلك حالة من الاستياء العام 

والناظر في سياسات الإدارة الأميركية في امتداد عقود يتبيّن عدم وقوفها على الحياد في النزاع العربي الإسرائيلي، واصطفافها غالباً، إلى جانب إسرائيل، وعدم جدّيتها في الضغط من أجل احترام حقوق الفلسطينيين، وتحويل مطالبهم المشروعة من حُلم إلى واقع. وقد تأكّد هذا التوجّه الرسمي الأميركي خلال الحرب الدامية، التي تشنّها دولة الاحتلال على الحجر والبشر في غزّة منذ تسعة أشهر. فقد سلّمت الإدارة الأميركية بالسردية الإسرائيلية لأحداث 7 أكتوبر (2023)، وتوابعها، وأيّدت قرار بنيامين نتنياهو شنّ عدوان غاشم على القطاع لتحقيق أهداف ضبابية فضفاضة، من قبيل القضاء على المقاومة الفلسطينية عموماً، و"حماس" خصوصاً، وتحرير الأسرى الإسرائيليين، وتحييد قطاع غزّة حتّى لا يُشكّل خطراً مستقبلياً على دولة الاحتلال، وإعادة تشكيل الواقع السياسي في القطاع، وإنهاء إدارته من جانب حركة حماس. ووفّرت واشنطن، بحسب ملاحظين لحكومة نتنياهو اليمينية المُتطرّفة، الدعم المادّي واللوجيستي، والإسناد الاقتصادي والعسكري، والغطاء الدبلوماسي اللازم للاستمرار في حرب عبثية على امتداد شهور. كما رفضت إحالة إسرائيل على محكمة العدل الدولية، وندّدت بإصدار محكمة الجنايات الدولية مُذكّرات اعتقال بشأن قادة إسرائيليين، وشكّكت في تهم منسوبة لدولة الاحتلال من قبيل ارتكاب جرائم حرب، وإبادة جماعية، وانتهاك قواعد الاشتباك، وفي محامل القانون الإنساني الدولي. وعطّل المندوب الأميركي في مجلس الأمن، من خلال استخدام حقّ النقض (فيتو)، صدور ما لا يقلّ عن ثلاثة قرارات لإدانة إسرائيل، وإلزامها بوقف إطلاق النار بشكل دائم.
وتابع المواطن العربي هذه السياسات الأميركية المُبالِغة في انحيازها إلى إسرائيل مباشرة عبر شاشات التلفزيون وشبكات التواصل الاجتماعي، في زمن معولَم ومُرقمَن، وخلّف ذلك حالة من الاستياء العام في الشارع العربي إزاء الإدارة الأميركية بقيادة بايدن. وقد حاول البيت الأبيض، لاحقاً، اتّخاذ بعض التدابير لتعديل السياسة الخارجية الأميركية بشأن العدوان الإسرائيلي على غزّة، من قبيل دعوة إسرائيل إلى تيسير إدخال ما يكفي من المساعدات الإنسانية إلى القطاع، وحثّها على عدم استهداف المدنيين، وتقليص عدد الضحايا في صفوفهم قدر الإمكان، والقيام بعمليات إنزال جوي للمساعدات في القطاع ومدّ رصيف قبالة شاطئ غزّة لهذا الغرض. ومع أهمية هذه التدابير في إظهار الوجه الإنساني للولايات المتّحدة، فإنّها لا تكفي للحدّ من شيوع انطباع سلبي إزاء سياسات واشنطن، وتشكّل رأي عام عربي مناهض لها في المنطقة. وتؤكّد ذلك استطلاعات رأي موثوقة. بحسب استطلاع الرأي العام الذي أجرته المجموعة المُستقلّة للأبحاث وشركاؤها في المنطقة، الذي شمل عيّنات من ستّ دول عربية مُهمّة (العراق، وسورية، والأردن، ومصر، ولبنان، وفلسطين) من 17 ـ 29 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، تبيّن أنّ دعم الولايات المتحدة دولة الاحتلال في حربها على غزّة كلّف واشنطن خسارة عقول العرب وقلوبهم، في مقابل تنامي شعبية منافسيها في المنطقة. فقد بلغت نسبة العرب الذين يعتقدون أنّ للولايات المتّحدة دوراً إيجابياً في حرب غزة 7% فقط. وقال 2% من المستجوَبين في الأردن إنّهم يثقون في الولايات المتّحدة، في مقابل 25% يثقون بروسيا، و24% يثقون بالصين. وبلغت الثقة بأميركا 7% في العراق في مقابل 33% لإيران، و33% للصين و36% لروسيا. أمّا في مصر فقد بلغت الثقة بأميركا 9% فقط، في مقابل 51% لروسيا، والنسبة نفسها لإيران و47% للصين. و"تعدّ هذه الأرقام هي الأدنى لصالح أميركا طوال السنوات العشرين الماضية".

بحسب نتائج استطلاع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات قال 82% من المستجوَبين إن موقف واشنطن من الحرب على غزّة "سيئ جدّاً"

ورد في نتائج استطلاع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات أنّ الرأي العام العربي يعارض سياسة الولايات المتّحدة تجاه الحرب على غزّة، فقد قيّم 94% من المستجوَبين موقفها بـ"سيئ" و"سيئ جدّاً"، وقال 82% إنّه "سيئ جدّاً". وسئل المستطلعة آراؤهم إذا ما كان هنالك تحوّل في موقفهم نحو الولايات المتّحدة بُعيد الحرب الإسرائيلية على غزّة. فأفاد 76% أنّ موقفهم أصبح أكثر سلبية، في حين قال 19% إنّ موقفهم لم يتغيّر، بينما أفادت نسبة 1% أنّ موقفها أصبح أكثر إيجابية. وأظهر استطلاع، أنجزته شبكة الباروميتر العربي في تونس، أنّ الحملة العسكرية الإسرائيلية في غزّة هي التي دفعت بالأساس إلى انحسار الآراء الإيجابية تجاه الإدارة الأميركية. ففي الأسابيع الثلاثة السابقة على 7 أكتوبر، قال 40% من المستجوبين في تونس إنّهم يحملون آراءً إيجابية تجاه الولايات المتّحدة، وبحلول 27 أكتوبر، ولم تكن قد انقضت بعد ثلاثة أسابيع على بدء العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزّة، قال الشيء نفسه 10% من التونسيين فقط.
وبناء عليه، يرى مراقبون أنّ لاستمرار الإدارة الأميركية في دعم الحرب الإسرائيلية على غزّة تداعيات سلبية على مكانة واشنطن في المنطقة، وأدّى عملياً إلى خسارتها عقوداً من الدبلوماسية الناعمة الهادفة إلى تلميع صورتها في العالم العربي، وتزايد مشاعر الغضب من سياساتها، في مقابل تصاعد شعبية خصومها (روسيا، والصين، وإيران) في المنطقة، وتوجّه كثيرون من المواطنين العرب إلى مقاطعة بضائعها، ويُخشى من أن تستغلّ الجماعات المُتشدّدة تنامي الاستياء الشعبي، من أميركا خصوصاً، والغرب عموماً، لإعادة إنتاج ظاهرة التطرّف العنيف على نحو يُهدّد المصالح العربية والأميركية في آن. ومعلوم أنّ هذه التداعيات تتعارض مع محامل وثيقة استراتيجية الأمن القومي، التي وقّعها الرئيس بايدن في أكتوبر/ تشرين الأول 2022، التي نصّت على أنّ أولويات السياسة الخارجية الأميركية هي ضمان التفوّق على الصين، والحدّ من نفوذ روسيا، ومكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط.
ختاماً، إذا كانت الإدارة الأميركية معنية بإصلاح سياساتها في المنطقة، وباسترجاع ثقة الشعوب العربية، فأحرى بها أن تلتفت إلى صرخات المدنيين الفلسطينيين الذين أدمتهم الحرب، وأن تضع حدّاً لمأساتهم، عبر فرض وقفٍ دائمٍ لإطلاق النار، وإلزام طرفَي النزاع بالجلوس إلى طاولة التفاوض، وبلورة سلام عادل يضمن حقّ الفلسطينيين في إقامة دولتهم المُستقلّة. أمّا التمادي في محاباة إسرائيل والاحتكام إلى لغة البنادق، فلن يُضمّدا الجراح، ولن يضمنا الأمان لإسرائيل، وسيزيدان من اتساع الفجوة بين العرب وأميركا لمصلحة معسكر الشرق لا محالة.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.