يومَ أكل كبار النمل مِنسَأة الأمم المتحدة
(1)
من ينظر بعينِ الطائر إلى جنبات السّاحة الدولية وأطرافها هذه الآونة سيرصد هول الوقائع التي تدور في أنحائه، فلا يرى غير صورة سوداء كالحة السّواد لواقعٍ دوليٍّ تتلاشى ممسكات تعاون بلدانه، وتتراخى روابط تفاهماته، فيسأل من يسأل وأين هيئة الأمم المتحدة؟ تكاد صورة المنظمة الأممية الماثلة أن تقارب صورة عُصبة الأمم (1920 - 1945) التي تردّتْ من فشلٍ إلى فشلٍ، وأصـابها رهـاب العاجز، فكتبت شهادة وفاتها منـذ بدايات الحرب العالمية الثانية، في نهاية ثلاثينيات القـرن العشرين. وقامت منظمـة فتية بعد الحرب العالمية الثانية لترث تركة متهدّمـة الأركان، لكنها أنصتتْ لأصوات عاقلة نادت بضرورة إعادة النظـر مليّـاً لتـرتيب مبــادئ جديدة وقيمٍ جـديدة، لصياغة ما يُعـيـد الأمـن والاسـتقرار لمجتمعٍ بشـريٍّ، أخذتْ أطرافـه تصارع بعضها بعضا، لا يوقفها كابح ولا يردّها مانع.
(2)
تُجانب الدقّة مقولة إن التاريخ يعيد نفسه، ولا توافـق الواقـع في أكثر أحوالها، فـلا التاريخ له عجـلات تحرّكه بدورانها كما قـد يَتبادر لذهن تلميذ سّـاذج، كما ليس هو محض دفـاتر تقلّـب أوصفحـات تطوَى. وأزيدك قولاً أن ليس للتاريخ حلقات متكـرّرة، بل هي سـلاسـل متجــدّدة، وإن تشــابهتْ في تسارع إيقاعاتها في زمان أو تباطأت في أزمان أخـرى. لكأن الدوران هو الثابت، فتدور العجلة في أرض معبّدة سالكة توصلك إلى هدفك وأخرى حجارتها ناتئة تعطب عجلتك فلا تصل.
دعني أعيد إلى قصة تلك المنظمة الأممية المعطوبة. لك أن تستعيد مشاهد ما قبل سقوط عصبة الأمـم، والتي قصد من إنشــائها تجنّب النزاعات والحـروب، فإنّ جملة مبـادئها لم تتعـدَ الحفـاظ على الأمـن والاسـتقرار في أنحـاء العالـم، والسّـعي إلى إنشـاء ما يعـزّز الـتعـاون لعيـشٍ مشـترك في مجــالاته الاجتماعـية والاقتصــادية والثقافية. تلك هي الثوابت التي يسـير على نسقها حراك التاريخ. خيبة عصبة الأمم تجلتْ في فشلها في حفظ الأمـن والاستقرار الدوليين، خصوصا بعد انسحاب ألمانيا واليابان، وتفاقـم المواجهات مع أوروبـا، ومن بعـد ما اتسـع في رقعـة الحرب تتمدّد ألسنة نيرانها شرقاً وغربا، شمالاً وجنوبا، وستة أعوام حسوما.
تتناقـص الموارد وتتناقض الاحتياجات، وتتكاثر، في الوقت نفسه، المطامع وتتقاطع المصالح
(3)
ثمّ هـا نحـن الآن، وفي ســنوات العقد الثالث من الألفية الميلادية، نشـهـد حال المنظمـة الأممـيـة بعد أن أضافت إلى اسمها صفة "المتحدة"، فما اتحدت أطرافها ولا نجحت في معالجـة المهام الأصيلة التي أخفـقـت في حلِّ معضلاتها العصية عصبة الأمـم القديمة، قبل نحو مائة عام. تتفاقـم الصّراعات هنا وهـناك، والحـال غير الحال قبل مائة عام. برغم ثورة التقنيات وتطورها والتواصل الرّقمي وانفتاح حضارات العالـم على بعضها بعضها، تلاقحـاً وانصهاراً، يقرّب الشعوب لتعـاون دولي أيجابي خلّاق، غير أن للحياة فوق الأرض تعقـيداتها وتحدّياتها. تتناقـص الموارد وتتناقض الاحتياجات، وتتكاثر، في الوقت نفسه، المطامع وتتقاطع المصالح لتزيد نار الصراعات أوارا وتتفاقـم الخلافات، ثم تقع الحروب وتتكاثر جولات الاقتتال بمتواليات هندسية، فـلا ترى لتلك المنظمة الأممية التي أصل منشأها تحقيق السلم والأمن وضمان الاسـتقرار في أنحاء المعمورة أدوارا تذكر في تخفيف كلّ تلـك الاضطرابات والزعازع.
أوّل من استخفّ بميثاق هـيئـة الأمـم المتحدة، وتحلّـل من إلـزامية مقرّراته دولٌ كبرى احتفظتْ لنفسها بعضوية دائمة في مجلس الأمـن
(4)
نجيل البصر فنرى أنّ أوّلَ من استخفّ بميثاق هـيئـة الأمـم المتحدة، وتحلّـل من إلـزامية مقرّراته دولٌ كبرى احتفظتْ لنفسها بعضوية دائمة في مجلس الأمـن، وهـو الآلـية الأعلـى لإنفـاذ القــرار الـدولي، مثلمـا احتكرتْ، ولنفسها أيضاً، حـقّ النقض والاعتراض على القرارات المصيرية التي تتخذها المنظمـة الأممية حيال قضايا وتحدّيات لها الأثر الأكبر على المجتمع الدولي بأكمله، بل على كلّ جوانب مقوّمات البقاء الإنساني في كوكب الأرض. إن كان ذلك هو الحال فإنّ عدالة الأرض عند هؤلاء اقتسموها قسمة ضيزَى، لا تصل إلى مستوى عـدالة السماء، بل صار البوْن بين العدالة والمظلومية أبعد من مسافة السماء من الأرض.
إن أمعنتَ النظر ملـيّاً سترى من بين الدول العظمى دائمة العضوية، من تجاوز ميثاق الأمم المتحدة بمراحل، فاستقوى على القانون بيـديه اقتـدارا وظلما، فـما حفـظ لمجلس الأمن تقديرا ولا لمبادئ عـدله احتراما. تبدأ الأمثلة في العقود الأخيرة من قيام دول كبرى بالتحـرّش والتهــديد، ثـمّ بشـنّ الحـرب بشتى المبررات الكذوبة على دول مستضعفة، عـقـابا وتأديبـا من دون اعتبار لاستقلال أو ســيادة أو كرامـة. الأمثلة في الشرق الأوسط أبصرها الأعشى وسمع لظى نيرانها المسـتعرة الأصـم، من العراق إلى سورية إلى ليبيا، وفي أوروبا يكفيك معمعة الروس مع أوكرانيا.
هكذا صار العالم فيما يتصل بميثاق الأمـم المتحـدة، مُنقـسماً إلـى فسـطاطَ من تُطبّق عليه القـوانيـن الدولية ضربة لازب وفسـطاط َ مَـن أعفوا أنفسهم من إلـزاميتها، فاختلتْ موازين العدالة الدولية وتهـاوتْ، لتبـدأ حقبة هي أشـبه بالحقبـة التي ســـبقتْ ومهّـدتْ لتداعـي عصـبة الأمـم، فأكلَ مِنسأتها النمـل، لكنهُ كان نمل الأقــوياء الكبار لا الضعـفاء المغلوبين في الأرض.
بات حـال هيئة الأمـم المتحدة أكثر بؤسـاً من حال عصبة الأمـم التي لفظت أنفاسها في ثلاثينيات القرن العشرين، ولم يبكِ عليها باكٍ
(5)
ها هـو جحـيم الحروب يجتاح العـالم من أقصاه إلى أقصاه. تهُب الشعوب التي كادت أن تفنيها المظلوميات، لتبحث عمّا يعيد إليها حقّـها في الحياة. فقد فلسـطينيـون أرضهم وبيوتهم، وظلّوا منتظرين استعادة وطن ضيّعهُ مجتمعٌ دوليّ عدالته معوجّة ظالمـة، وعيونُ كـبار لا ترى إبادة جماعية تتفنّـن في تنفيذها ذئاب صهيونية، لا تتورّع عن قتل الأجنـة في بطون الأمهات، ناهيك عن ملاحقة أجيالٍ من المقاومين يسعون إلى استعادة تلك العدالة التي بقيت حلما بعيد المنال، و كرامة في العيش حرموا منها أكثر من سبعة عقود، فلا أمنـاً لقـوا، ولا استقراراً نالوه، ولا أرضـاً آوتهــم. لكأنّ على الفلسطينيين أن يتحملوا تبعات (ومعاناة) الدياسـبورا اليهودية التي جاءت في العهد القديم.
إن فئة من اليهود تفارق من شــتاتها، تأتي الآن لتعـدّ، فيما نشـهد، مهرجانا للقتل الجماعي، تنتـقـم عبره من التاريخ، فتشعل اقـتـتالاً شـرسـاً تتصاعد تداعـياته بما قــد يدخل العالم، بجميـع أطرافه، في أجواء حربٍ عالمـيـة ثالثـة. سيكون التحدّي القادم، ومن واقـع تجلـيـاته، أكبر من قــدرات منظمة أمميـة شــائخة، تترنّح مقـوّمات قيمها، وتتداعى مقرّرات مبادئها بغـدرٍ بعضه خِسّـة ومكـر من كِـبارهـا الذين كتبوا مواثيقها ذات يوم، فإذا هم يهينونها باستخفافٍ مُتعـمّد، لفشلها في نظرهم في تكريس انتقائية العدالة وترسيخ المظلوميات. لقد بات حـال هيئة الأمـم المتحدة أكثر بؤسـاً من حال عصبة الأمـم التي لفظت انفاسها في ثلاثينيات القرن العشرين، ولم يبكِ عليها باكٍ.
تُرى، من سيبكي على منظمّة أممـية أكل منسأتها نملُ كبارها؟