هيئة الانتخابات السورية بين النظام والائتلاف والإدارة الذاتية
كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.
أعلنت الإدارة الذاتية لمنطقة شمال شرق سورية، المتمثلة بمجلس سورية الديمقراطي (مسد)، على لسان نائب رئيس الهيئة التنفيذية فيها، حكمت حبيب، قبل أيام، في مقابلة أجراها معه موقع "الحل نت"، عن إنشائها مفوضية عليا للانتخابات، تمهيداً لإجراء انتخابات شاملة خلال المرحلة المقبلة في مناطق سيطرتها. وأضاف أنّ "تشكيل مفوضية عليا للانتخابات جاء نتيجة لعمل لجنة المتابعة المنبثقة عن مؤتمر أبناء الجزيرة والفرات التي لا تزال تعقد اجتماعاتها دورياً وبشكل شهري"، مؤكّداً أنّ "الانتخابات ستجرى خلال المرحلة المقبلة، بهدف إتاحة الفرصة والدور لمن كان في المنطقة الرمادية للمشاركة في الإدارة الذاتية".
وتأتي الخطوة المتّخذة من الإدارة الذاتية دليلاً واضحاً على أهميّة هذا الملف، مع الأخذ بالاعتبار الظروف المحيطة به، والمسارات الموازية في مناطق سيطرة النظام من جهة، وقوات المعارضة المدعومة من تركيا من جهة ثانية، وقوات هيئة تحرير الشام من جهة ثالثة، وبغضّ النظر عن طريقة إخراجه وآليات تنفيذه ومدى شموله. ولا بدّ من قراءتها ضمن هذا السياق، خصوصاً أنّ تحضيرات نظام الأسد لإجراء انتخابات رئاسة الجمهورية تجرى على قدم وساق في مناطق سيطرته، ولا تقدح في جدّيتها التصريحات المتضاربة لحلفائه الروس، والتي يقصد منها المماطلة كسباً للوقت لا أكثر، خصوصاً وأنّ الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية كان قد أصدر، قبل عدّة أشهر، قراراً مماثلاً بإنشاء مفوضية وطنية للانتخابات، لكنّه ما لبث أن تراجع عن قراره هذا تحت ضغط الشارع الثوري.
استدركت الإدارة الذاتية الخطأ الذي وقعت به قوى الثورة والمعارضة، عندما تجاهلت أهمية الانتخابات بوصفها أحد أسباب اكتساب الشرعية للسيطرة الفعلية على الأرض
وقد يخطر ببال حكومة الإنقاذ التابعة لهيئة تحرير الشام، في مقبل الأيام، أن تعلن عن إنشاء هيئة مشابهة، خصوصاً أنّها تتبّع سياسة تصفير المشكلات مع الأميركيين بالدرجة الأولى، وهذا ما بات واضحاً في المقابلات الصحافية المتكرّرة لقائد الحركة، أبو محمد الجولاني، الذي يعتقد أن من الممكن للمجتمع الدولي قبول وجود إمارة إسلامية معتدلة شمال غرب سورية، إذا ما قبلت أميركا ذلك، وما يشجّعه كثيراً هو التحوّل الكبير في السياسة الأميركية تجاه حركة طالبان. أمّا عقدة كون الديمقراطية كفراً في معتقد الحركة، فهي عقبة صغيرة يمكن تجاوزها، عندما تكون المصلحة السياسية واضحةً لدى قادة هذا التنظيم، فقليل من الديماغوجيا الإعلامية قادر على مسح الشعارات الرنانة ولحس عقول الأتباع.
الانتخابات من أهم الأدوات الدستورية السياسية للتعبير عن الإرادة الشعبية. وفيما يخصّ الملف السوري، ورد ذكرها ضمن قرار مجلس الأمن رقم 2254 إحدى الخطوات النهائية لحلّ الصراع الدائر منذ عشرة أعوام. وتأتي أهميتها بتطبيقها بالترتيب، بعد إنجاز خطوات حسن النية المتعلقة بإطلاق سراح المعتقلين، وبعد تأمين البيئة الآمنة والمحايدة، وبعد تشكيل هيئة الحكم الانتقالي كاملة الصلاحيات، وبعد كتابة الدستور التوافقي. وأكثر من ذلك، ربطت جميع القوى الفاعلة بالملف السوري مسألة إعادة الإعمار ورفع العقوبات بموضوع الانتقال السياسي الحقيقي وفق مقرّرات بيان جنيف 1 والقرارات الدولية ذات الصلة، وقد أوضحت الإدارة الأميركية، وكذلك الاتحاد الأوروبي، بصراحة موقفهما الرافض أية انتخابات يجريها نظام الأسد خارج إطار التوافقات الدولية.
لن يكون الحل بيد طرف واحد في سورية، لا النظام ولا قوى الثورة ولا قوى وسلطات الأمر الواقع، بل سيكون مشتركاً بينهم جميعاً
استدركت الإدارة الذاتية الخطأ الذي وقعت به قوى الثورة والمعارضة من قبل، عندما تجاهلت أهمية الانتخابات بوصفها أحد أسباب اكتساب الشرعية للسيطرة الفعلية على الأرض. من هنا جاءت خطوتها هذه للبدء بعمليات تحضير واسعة للبنى التحتية الخاصّة بالانتخابات، وهذه ستشمل من بين مفرداتها تدريب الكوادر الفنية المختصّة على خوض غمار المراقبة والمتابعة لمجمل مفاصل العملية الانتخابية. وهذه النقطة من أهم النقاط التي لم تستوعبها قوى الثورة والمعارضة السورية، فهي أسيرة شعارات جامدة وخطابات خشبية، وكأنّ سورية لم تنقلب رأساً على عقب خلال الأعوام العشرة المنصرمة.
للعمل على إنجاح الانتخابات، لا بدّ من القيام بتحضيرات كثيرة تبدأ الآن. ولعلّ أهمّ خطوات مشروع انتخابات ناجحة إنجاز بنية تحتية ملائمة، فلا بدّ من أن تتضمّن هذه البنية القواعد الدستورية والقانونية، أي البنية التشريعية اللازمة، من حيث قوانين الانتخابات والأحزاب والإعلام، وغيرها مما يتصل بشكل مباشر بالعملية الانتخابية، وكذلك ترتيب العلاقة بين السلطات التنفيذية والقضائية، وتوزيع الأدوار وإدارة العملية من جهة واحدة مستقلة، وهذا ما تعمل عليه الإدارة الذاتية بشكل ممنهج، فحتى لو خلصت العملية السياسية إلى غير ما ترغب هذه القوى من إعلان دولة مستقلة، أو إقليم منفصل، أو حتى حكم شبه ذاتي، فإنها تكون قد أسّست لبنية تحتية قابلة للتطوير ضمن إطار فيدرالية ضيقة، أو حتى لا مركزية إدارية موسّعة.
على الجميع أن يدرك أنّ الزمن الضائع ثمين، ومن يتحضّر باكراً للمشاركة في العملية السياسية سيقطف الثمار الناضجة
لن يكون الحل بيد طرف واحد في سورية، لا النظام ولا قوى الثورة ولا قوى وسلطات الأمر الواقع، بل سيكون مشتركاً بينهم جميعاً، وسيكون بالأدوات الشرعية التي يعرفها المجتمع الدولي ويعترف بها، وأهمها الانتخابات. لم تستوعب أغلب قوى الثورة والمعارضة بعد أنّ الأمور لا تأتي بدون مقدمات، وأنّ الانتصارات لا تتحقّق برفع الشعارات فقط من دون امتلاك أسبابها. لم يقتنع فرسان "السوشيال ميديا"، الذين كان لهم، بالمناسبة، الدور الأكبر في تراجع "الائتلاف" عن قراره، بأنّ إنشاء مفوضية وطنية للانتخابات ضرورة ملحّة، وليس ترفاً أو تزيّداً لا طائل منه.
وجود جهة مستقلة حيادية احترافية قادرة على إدارة الانتخابات، بمستوياتها الرئاسية والبرلمانية والمحلية في سورية المستقبل، أمرٌ لا غنى عنه، وعلى القوى المقابلة للنظام السوري أن تبدأ ببناء مؤسساتها التي ستصبح في المستقبل جزءاً من بنية الدولة السورية الجديدة، بعد زوال نظام الاستبداد. بدون كوادر مؤهلة ومدرّبة قادرة على إدارة العملية التنافسية بشكل محترف، ستتمكّن قوى النظام القديم من الفوز بأية انتخابات مقبلة، فالمسألة تقنية إلى جانب أنها جزء من العملية السياسية، ومن يمتلك الأدوات يمكنه الوصول إلى الأهداف.
على الجميع أن يدرك أنّ الزمن الضائع ثمين، ومن يتحضّر باكراً للمشاركة في العملية السياسية سيقطف الثمار الناضجة، ومن يتخلّف عن العمل أو يمتنع تحت شعارات وحجج واهية سيبقى خارج اللعبة. وعلى السوريين أنّ يتعظوا من تجربة القوى السياسية في العراق. أدركت الأحزاب المشاركة في مجلس سوريت الديمقراطي ذلك، وتعمل عليه بكلّ جد وإخلاص، والنظام يملك مؤسسات الدولة بطبيعة الحال، فهل تدرك قوى الثورة والمعارضة الأمر، أم تبقى نائمةً في العسل، تحلم بزرقة السماء وروائح الياسمين وأصوات العصافير؟
كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.