لن نصالح ولو توّجونا بالإمارة
كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.
لا تهدف هذه المقالة للحديث عن تعريفات الثورات والحروب الأهلية، وتبيان الفروق بينهما، بل تسعى إلى وضع ملاحظاتٍ بسيطةٍ في هامش الجدل والسجال بشأنهما في الساحة السورية. ولا بدّ بداية من توصيفٍ مبدئي للحالة الشعورية لـ"أهل الثورة"، كما يحبّ كثيرون منهم تسمية أنفسهم. فهم في حالةٍ مستمرّة من المطالبة بالحقوق المشروعة، وثباتٍ دائمٍ على المبادئ الأخلاقية، وسعيٍ مستمرٍ إلى الانتقال السياسي. ويجمع هذا التوصيف متناقضات، فالأخلاق والسياسة حقلان مختلفان كليّاً، فبينما تقوم تلك على الواجب تقوم هذه على المصلحة. الأخلاق هي الإجابة عن سؤال ما يجب أن يكون، بينما السياسة هي الإجابة عن سؤال كيف يمكن أن يكون. يقول علي عزّت بيغوفيتش في كتابه "الإسلام بين الشرق والغرب": "الواجب هو المصطلح الأساسي في علم الأخلاق، والمصلحة هي المصطلح الأساسي في علم السياسة. الواجب والمصلحة وإن كانا متعارضين، فإنّهما قوّتان محرّكتان للنشاط الإنساني، ولا يمكن الخلط بينهما، فالواجب دائماً يتجاوز المصلحة، ولا علاقة للمصلحة بالأخلاق. فالأخلاق لا هي وظيفيّة ولا هي عقلانية".
تقوم الأخلاق على الثبات، بينما تتحرّك السياسة في منزلقات الواقع. والثورة السورية مثل غيرها من الثورات ليست شيئاً مطلوباً بذاته، فهي وسيلة للخروج من استعصاء الاستبداد والتخلّص من الديكتاتورية، لكن لو أتيح لنا، نحن السوريين، الوصول إلى حقوقنا في الحرّية والكرامة وبناء دولة المواطنة بالطرق العاديّة، عبر الانتخابات وغيرها، لما خرجنا في هذه الثورة ربّما، بل غالباً، فلسنا من هواة المشقّة، حالنا حال غيرنا من البشر.
إذاً، الثورةُ ليست مُقدَّساً نعبده، بل طريقٌ سلكناه مرغمين مع إحساسنا العميق بفداحة الخطر وحجم التضحيات التي سنقدّمها، وكنّا في خروجنا على النظام لا عقلانيين، لأنّ ما من عاقل لا يعرف حجم القمع الذي مارسه النظام علينا في حماة وحلب وغيرها من المدن في ثمانينيات القرن الماضي، وما من عاقلٍ لا يدرك حجم تداخل المصالح الدولية وتشابك العلاقات والوظائف بين النظام الحاكم والنظاميَن الإقليمي والدولي، وما من عاقلٍ لم يقرأ تصريحات النظام المُبكّرة على لسان رامي مخلوف إنّ أمن إسرائيل من أمن سورية. ولكنّ للقلب أسبابا لا يمكن للعقل أن يدركها، وللروح كذلك، والثورة فعلٌ ضميريٌ وجدانيٌ شعوريٌ بالدرجة الأولى، ينطلق من الإحساس بالظلم، وفي الوقت ذاته، من الإحساس بالقدرة على مقاومته بغضّ النظر عن النتائج. يمكن القول إذاً إنّ التزامنا بالاستمرار في الثورة أخلاقي أولاً وقبل كلّ شيء، بل هو يتجاوز مصلحتنا في العيش، أي حتّى في الحياة باعتبارها حقّاً مُقدّساً للإنسان أيّ إنسان، رغم أنّنا انطلقنا بثورتنا من أجل حياةٍ أفضل. لولا هذه المفارقة العجيبة لما كان بإمكاننا فهم التضحية بالنفس والمال والاستمرار في معاندة هذا السرطان المُستعصي. إنّها روايتنا وسرديتنا للواقع والماضي والمستقبل، وسندافع عنها.
إذا كان للعلم أو للأدب أو للقانون أو للفلسفة أن تحدّد مصطلحاتها كما تراه متناسباً، ومعاييرها، فإنّ للثورات الحقّ ذاته
لكنّ للسياسة أحكاماً أخرى ومسالك ودروباً لا تستقيم بالضرورة مع المبادئ الأخلاقية. وصحيحٌ أنّ السياسة بلا أخلاق كما الورود بلا عبير، إلّا أنّ الحياة تفرض قوانينها وليس بالمستطاع معاندتها. لا يمكن للماء أن يصعد الجبل من دون قوّة محرّكة خارجية، وكذلك لا يمكن للدول والمجتمعات أن تدير شؤونها من دون التدافع الذي هو في النهاية السياسة. وإذا استعصى على السياسة حلّ المعضلات المتراكمة والمشكلات المستجدّة، جاءت الثورة لتكسر حلقات الجمود هذه، فإذا جوبهت الثورة بالعنف لجأت إليه، فلا يمكن أن يحافظ أيّ جمهور على حراكه سلميّاً فترة طويلة عند مجابهته بالسلاح، وبالعنف المفرط، وبالحقد الأعمى، كما حصل للسوريين. هنا يصبح للمفاهيم والمصطلحات والكلمات معانٍ أخرى، فأيّ معارك بين مجموعات أهلية غير منظّمة أو عسكرية منظّمة (ضمن شروط معينة) يمكن أن يُطلق عليها وصفُ نزاعٍ مسلّح داخلي، فإذا ما تدخّلت فيه أيّ قوات نظامية لدولة أخرى أمكن، مع بعض الشروط الأخرى، وصفها بالنزاع المسلّح الدولي. هذا لا يروق للثائرين حتّى وإن كان صحيحاً نظرياً، لأنّ وقع المصطلحات الجافّة يُفقدُ الكلمات سحرها، ويطفئ وهجها، ويُخمدُ بريقها، وبالتالي يجرح الأساس الأخلاقي الذي قامت عليه الثورة، ويقدح في مشروعيتها ويثلب ضمير أهلها. هكذا يأتي وصف الثورة بالحرب الأهلية في السياق السوري جارحاً، صادماً، مهيناً وغير مقبول.
عندما ننظر إلى المسائل بعيون أصحاب الحقّ نرى غير ما يراه الفيلسوف أو الأديب أو الشاعر أو القاضي القابع ما وراء البحار في المحكمة الجنائية الدولية، عندما ننظر بعيون أرملة فقدت زوجها وأولادها وإخوتها، وعندما ننظر في عيون رجل فقد ساقه أو يده أو في الأقلّ منزله ومورد رزقه، وعندما نسأل طفلةً عن أحلامها، عن لعبها وأثوابها، وعن حقيبة المدرسة، لا نرى غير الألم والحزن والتعب والغضب، وأحياناً الحقد. عندما ننظر في خيمةِ أسرةٍ تقيم منذ 12 سنة في مخيّمٍ بعرسال أو أطمة لا نرى ما يتوفّر عليه بيتُ من هجّرهم، فكيف لنا أن ننتظر من هؤلاء قبول المساواة بالذنب والجرم في نعت الصراع الدائر والكفاح ضدّ الاستبداد والديكتاتورية بالحرب الأهلية؟... ما دامت حرباً أهليّةً فالكلّ متساوون بالذنب، لكنّها ليست كذلك، ولم تكن يوماً ولن تكون.
لا يمكن المساواة بين من هتف مسبّحاً بحمد الديكتاتور، حتّى ولو اعتذر اعتذاراً باهتاً ينقصه الصدق وتعوزه الثقة، ومن هتف للحّرية ففقد روحه أو روح أخيه
ثمّ من قال إنّ المساواة حقيقيّة وموجودة فعلاً في عالم البشر؟ هذا أمرٌ لا يمكن إثباته، لا عملياً ولا نظرياً، فما من إنسان يشبه إنساناً آخر في التفاصيل كلّها، وفي المشاعر والأحاسيس والمعارف والقدرات كلّها، فكيف يتساوون إذن؟... المساواة التي تتكلم عنها إعلانات حقوق الإنسان وقبلها الشرائع السماوية أُطُرٌ نظرية عامة تحاول أن تضع حدوداً لعدم المساواة وأن تقلّصها إلى الحد الذي يمكن من خلاله التعايش معها، لكنّها لا يمكن أن تزيل الفروق بين البشر أبداً. هل يعني مبدأ تساوي البشر أمام القانون مساواتهم فعلاً في الواقع؟... لقد أثبتت دراساتٌ كثيرة، إضافة إلى الواقع المعاش، أنّ الأغنياء أقدر على الإفلات من العقاب بما لا يقاس من الفقراء، فأين أصبح مبدأ المساواة الجنائية إذاً؟ هل تعني المساواة في حقّ إبداء الرأي والاقتراع حقّاً وفعلاً تساوياً بالتأثير والحضور والوصول بين الفقراء والأغنياء؟ ثمّ من قال إنّ القلوبَ واحدةٌ والأرواحَ واحدة؟ ألم يكتب أمل دنقل "لا تصالح على الدم .. حتّى بدم! لا تصالح! ولو قيلَ رأسٌ برأسٍ، أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟ أقلبُ الغريبِ كقلبِ أخيكَ؟! أعيناهُ عينا أخيك؟! وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك بيدٍ سيفها أثكلك؟!". ولأنّ المساواة نظرية وغير واقعية اخترع البشر العدالة، وفيها حاولوا تقليص مساحات الخلل وعدم المساوة، من خلالها صار بالإمكان المطالبة بحقوق متساوية رغم الإدراك سلفاً باستحالة الوصول إليها.
في خضمّ هذا السجال السوري في الزمن المهدور من عمرنا، لا يمكن المساواة بين من هتف مسبّحاً بحمد الديكتاتور، حتّى ولو اعتذر اعتذاراً باهتاً ينقصه الصدق وتعوزه الثقة، ومن هتف للحّرية ففقد روحه أو روح أخيه. ولا يمكن المرور على الكلمات مرورَ العابرين الطارئين، فهي معجونةٌ بالدماء والأرواح والعذابات. وإذا كان للعلم أو للأدب أو للقانون أو للفلسفة أن تحدّد مصطلحاتها كما تراه متناسباً، ومعاييرها، فإنّ للثورات الحقّ ذاته. إنها حرب حول الحقّ والتاريخ، ومن حسن حظّنا أنّا اخترنا الجانب الصحيح منها، ونحن نواصل الدفاع عن الذاكرة، ولن نصالح حتّى ولو توّجونا بالإمارة... لن نصالح.
كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.