إسرائيل وإيران والمحيط العربي المُستباح

13 سبتمبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

تداولت مواقع التواصل الاجتماعي مقطعاً من مقابلة تلفزيونية لأحد الدبلوماسيين السعوديين، يتحدّث فيه عن مشكلة حصلت معه في أحد مطارات إيران (على الأغلب قصد مطار العاصمة طهران). تحدّث الدبلوماسي عن تعرّضه للإهانة من أحد ضبّاط الحرس الثوري الإيراني، إذ ذكر الدبلوماسي أنّ الضابط صفعه مرّات عدّة على وجهه، وقد أثار الكلام حميَّة المذيعة، التي سألته مشدّدةً: "هذه الصفعة للمملكة كلّها!"، وقد أكّد الدبلوماسي ذلك. إلى هنا ينتهي الجوهري في الخبر بغضّ النظر عن تصرّف الدبلوماسي المعني أو الخارجية السعودية. يُعيد المشهدُ للأذهان منظرَ اشتعال النيران في خزّانات النفط في شركة أرامكو السعودية، في 14 سبتمبر/ أيلول 2019، وقد كانت أصابع الاتهام موجّهةً بشكل مباشر لإيران في إطلاق المُسيَّرات والصواريخ من أراضيها أو عبر المليشيات التابعة لها في اليمن والعراق. طبعاً لم تردّ السعودية عسكرياً على الهجوم، رغم التضامن العربي والدولي الكبير آنذاك. قد يكون السبب المباشر في ذلك وجود الإدارة الأميركية الديمقراطية، التي كان رئيسها قد تصرّف بعدائية كبيرة تجاه السعودية، وتجاه وليّ عهدها منذ حملته الانتخابية، وخلال الفترة الأولى من ولاية إدارته. من باب آخر قد يكون هذا التخلّي الأميركي هو ما دفع الرياض إلى قبول الوساطة الصينية لوقف التصعيد المُتبادَل، وإعادة العلاقات بين البلدَين المقطوعة منذ أعوام عدّة. تجلّى هذا في الختام باتّفاقية رعتها بكين وأعادت الدولتان بموجبها تبادَل السفراء وما يستتبع ذلك من علاقات سياسية وإعلامية، وغيرها.

في الأحوال كلّها، ليست السعودية وحدها في مرمى الاستهداف، بل كان المحيط العربي كلّه، منذ عدّة عقود، على هذا الحال المُتردّي، من عمليات اغتيال قادة منظّمة التحرير الفلسطينية في تونس، إلى اجتياح لبنان وحصار بيروت، وصولاً إلى القصف الإسرائيلي الراهن والمستمرّ للأراضي السورية (جديده أخيراً مساء الأحد الماضي)، ثمّ ليس ببعيد ما حلّ بالعراق على يد إيران ومليشياتها بعد الاجتياح الأميركي، والتحكّم الجلي بقرار دمشق وصنعاء وبغداد وبيروت. الحقيقة أنّ الحرب الإسرائيلية في غزّة، وخرق إسرائيل بنودَ اتفاقية كامب ديفيد (1978)، واحتلالها محور صلاح الدين (فيلادلفي)، وضربها بالقوانين والمعاهدات الدولية كلّها عُرْضَ الحائط، ليس إلّا نتيجةً لحال الهوان والذلّ الذي تعيشه بلداننا العربية. كما أنّ انعدام القدرة على الردّ العربي على تدخّلات إيران يمثّل، بشكل أو بآخر، غيابَ الفاعلية العربية، والتنسيق في المواقف، والدفاع المشترك، بل هو أكثر من ذلك غيابٌ تامٌّ لمفهوم الأمن القومي العربي عامّة، وعلى صعيد كلّ دولة عربية على حدة.

انعدام القدرة على الردّ العربي على تدخّلات إيران يمثّل، بشكل أو بآخر، غيابَ الفاعلية العربية، والتنسيق في المواقف

لو عدنا إلى المشكلات التي تواجهها الدول العربية، لوجدنا أنّها تنبع في الأصل من غياب مفهوم دولة المواطنة. فالدولة التي لا تُقيم وزناً لسكّانها، والتي تعتبرهم رعايا ما عليهم سوى الامتثال لما يراه النظام الحاكم، الذي لا يُفرّق غالباً بين الدولة وحكّامها، هو السبب الرئيس في غياب مشروع وطني على مستوى كلّ دولة، ومشروع عربي على مستوى الأقطار العربية عموماً. فاتّفاق أنظمة الحكم على تهميش الناس، أي أصحاب الأرض الحقيقيين وأصحاب الوطن والدولة والسيادة، يعني أنّه بإمكانها التصرّف بما يضمن استمرارها في السلطة. يستتبع هذا التصرف بانفراد من بقية الأنظمة الأخرى. وجدنا هذا بيّناً واضحاً في أزمة حصار قطر. فبدل أن تشعر دول الخليج العربي بوجود سندٍ حقيقي وظهرٍ لها في دول الجوار الخليجي ذاته، كانت ترى التهديد المباشر منهم. ما الذي دفع قطر غير ذلك لانتهاج سياسة أكثر قرباً من تركيا؟ وما الذي جعل عُمان على الدوام ذات موقف مختلف عن بقية دول الخليج من إيران؟

عندما يغيب أصحاب الحقّ، وعندما يكونون عاجزين عن الدفاع عنه، نكون أمام ضياع لهذا الحقّ. المواطن العربي مقهورٌ نفسياً، مقموعٌ سياسياً، مطحونٌ اقتصادياً، مُتغرّب في وطنه ثقافياً، فكيف يمكن لفاقد الكينونة الذاتية أن يكون صاحبَ سيادةٍ على صعيد وطني؟ ... لقد كانت ثورات الربيع العربي فرصةً ماسيّةً لاستعادة الحقوق المهدورة، لكّن مجمل الظروف الدولية والإقليمية والداخلية منعتها من العيش. لقد شكّل "الربيع العربي" خطراً محدقاً بالأنظمة العربية، التي هي جزء من النظام العالمي، فكان لا بدّ من وأده في المهد.

كيف يمكن للمواطن العربي، فاقد الكينونة الذاتية، أن يكون صاحبَ سيادةٍ على صعيد وطني؟

والآن، وبعد عدّة أعوامٍ من محاولة الناس العاديين تغيير مقاليد الحكم، وبعد فشل المعارضة السياسية في قيادة هذه المحاولة وتأطيرها ودعمها لتحقيق الانتقال السياسي التاريخي، نجد أنفسنا في دوامة الفشل المُستدام. هكذا ينتج عن الثورات الفاشلة استبداد أشدّ فتكاً ممّا كان، وهكذا تتحطّم بيد الاستبداد الجديد التراكمات التي حقّقتها النضالات البسيطة على مدار عقود. مع الاستبداد العائد يُسحق مبدأ الفصل بين السلطات، ويُتراجَع عن التقاليد السابقة كلّها، التي تأتي بالممارسة البيروقراطية، والتي هي من خصائص الدولة جهازاً حيادياً بين الحكّام والمحكومين. مع الاستبداد تصبح الدولة جهازَ قمعٍ هائلٍ يدوس كلَّ من يقف في وجهه، وهذا هو السبب الرئيس في غياب الدولة ذاتها، فهذه التي تصبح مهمّتها قمع مواطنيها لا يعود لها في مواجهة الأعداء الخارجيين أيُّ سند. هكذا كانت الدول تنهار من الداخل مع الاستبداد، وهكذا ستبقى معه عروشاً وهميةً من قشٍّ عَفِن.

قد يكون من حسن حظّنا أو من سوء طالعنا (لا فرق بين الأمرَين) أنّ المشاريع المتصارعة إقليمياً في أرضنا لا يمكن أن تصل إلى تفاهمات بينيّة تُؤدّي بها إلى تقاسم النفوذ بسهولة. قد تكون في هذا الصراع فرصةٌ لنا لالتقاط أنفاسنا واستجماع عزيمتنا. لكنّ هذا يضيف إلى مشاكلنا مشاكلَ أخرى، فنحن الآن في مواجهة أعداء كُثر، الاستبداد الداخلي والاستعمار الخارجي، وثبت بالتجربة أنّهما مستعدّان للتحالف ضدّنا إن لزم الأمر. يطرح هذا علينا مُجدّداً سؤالَ الساعة الراهنة: ما العمل للخلاص؟ ... الإجابة ليست بتلك السهولة، لكنّها تبدأ من تبنّي خطابٍ سياسي وطني عقلاني جامع للمعارضات السياسية العربية كلّها، يُجمَع من خلاله شتات الهُويَّات المتناثرة، وتُعاد الثقةُ بقدرة الناس على النضال في سبيل العيش الكريم.

56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
حسان الأسود

كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.

حسان الأسود