هل يكفي خطاب المواطنة لمواجهة خطاب العقائد؟
كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.
مشروعان متوحشان يتخاطفان المنطقة العربية، يقوم كل منهما على مبدأ التوسّع في المحيط الرخو المجاور، ويشتركان كلاهما في بناء تصورهما لتسويقه داخليّاً ضمن السردية المعلنة لجمهورهما على أساس أيديولوجي ديني، بينما يصدّر كل منهما للعالم الخارجي خطاباً ديمقراطيّاً وكلٌّ بحسب مفهومه للديمقراطية. يقوم المشروع الإسرائيلي على وعد توراتي بأن تكون الدولة المنشودة من الفرات إلى النيل، ويتم تجييش العناصر الغيبية واستحضار الموروث الديني لتُضفى عليه مَسحةٌ مطلقةٌ غير قابلةٍ للجدال أو الدحض. هذا الكيانُ الذي نشأ على يد عَلمانيين يتبنون مبدأ فصل الدين عن مؤسسات الحكم، وعلى يد ملحدين لا يؤمنون بالله ولا بالأديان أو العقائد الدينية، يسنّ قوانينَ تحمي الحريديم (اليهود المتدينين) من الخدمة العسكرية، ويعمل، في الوقت نفسه، على استيراد الميثولوجيا والأساطير والعقائد اليهودية ليبرر مشروعه الراهن في قضم، ليس ما تبقى من الضفة وغزّة فحسب، بل للتوسع إلى مناطق أبعد وصولاً إلى أرض الميعاد الخرافية. قد لا يكون في المقدور احتلال كل هذه المساحات وإدارتها كما يتم الآن في أراضي فلسطين، لكن يبدو الأمر بمثابة تهويلٍ بالاحتلال المباشر لتقبل دول المنطقة وشعوبها ما هو أدنى درجة، أي لتقبل مشاريع الشرق الأوسط الجديد الذي أعلنه قادة إسرائيل مراراً خلال الأشهر الماضية بما توفر لهم من فائض قوّة معروفة أسبابه.
أما المشروع الإيراني، فإنّه يستحضر التراث الشيعي ليسدد سهامه باتجاه فريسته التي يرى أوجه الضعف البائنة عليها. يستدعي فكرُ الثورة الإسلامية الإيرانية تراثًا من الانقسام بدأ بين العرب أنفسهم، ثم انتقل ليكون بين الإيرانيين وأبناء عمومتهم الترك عند تأسيس الدولة الصفوية معادلاً مقابل للدولة العثمانية. يستدعي هذا المشروع إرثاً تاريخيّاً بدأ أساساً بعيداً عن بلاد فارس، فالشيعة الأولى التي تكونت في التاريخ الإسلامي كانت شيعة عثمان بن عفّان، أي أتباعه الذين أرادوا الأخذ بثأره، ثم أتى بعدهم من تشيّع لعليّ بن أبي طالب وكانوا جميعاً من العرب لا الفرس. لكنّ تطوّر الأحداث دفع المسلمين العرب إلى الانقسام شيعاً وفرقاً تتصارع على الحكم لا على الدين، وإن ألبس كل طرفٍ سرديته لباسها الديني لكسب الشرعية الوحيدة آنذاك، أي شرعية الحكم بتفويضٍ إلهي. لقد كان العرب، أي أصحاب الدين الأول قبل أن ينتشر الإسلام في بلاد فارس، هم الذين تشيعوا مع عثمان ثم مع علي، لكنّ سياق الصراع القومي لاحقاً جعل من الفرس حَملةُ هذه الراية بغير وجه حقّ. هل الخميني أو الخامنئي أقرب لعلي بن أبي طالب من معاوية أو من أي واحد من أحفاده؟ هذا محض مخاتلةٍ وخداعٍ وتخريصٍ يجافي المنطق والواقع، لكنّه استطاع أن يسيطر على عقول كثيرين من أفراد الأمة الإسلامية وجماعاتها ردحاً طويلاً من الزمن، وما زال.
مدنٌ بأكملها مسحت عن وجه الأرض في سورية، وسكّانُ مدنٍ أخرى لم يبق منهم أحد فيها، وهذا هو تماماً ما تفعله إسرائيل في غزّة
يستخدم المشروع الإسرائيلي كل أسباب العنف، بدأ بذلك في مراحل مبكرة أثناء الانتداب البريطاني، ثم بدأ يطوّع كل القوى الغربية الأوروبية والأميركية لصالحه، فكان العنف الممارس منه محمياً بالفيتو على صعيد القانون الدولي حتى باتت إسرائيل كياناً خارج أي حساب، بل هي تتجرّأ حتى على الأمم المتحدة ومؤسساتها، بل على دولٍ دائمة العضوية في مجلس الأمن مثل فرنسا، وتهينها وتهين أيّاً كان يتجرّأ على انتقادها. والآن باتت جرائمها في غزّة محلّ حماية سياسية وقانونية ليس من أميركا فقط، بل من أغلب دول أوروبا، وأحد أبرز تعبيرات ذلك أن تهبّ ألمانيا للدفاع عنها أمام محكمة العدل الدولية ضد جنوب أفريقيا في دعوى الإبادة الجماعية، يا للمفارقة العجيبة!
يستخدم نظام الحكم في إيران أيضاً العنف المفرط ضدّ الأفراد والجماعات داخل حدود إيران للحفاظ على السلطة والسيطرة على مقاليد الحكم، ويمارس عنفاً أشدّ تجاه المجتمعات التي استباحتها مليشياته، لقد تمّ إفراغ مدن العراق الكبرى، ومثلها مدن سورية من أهلها العرب السنّة بحجّة داعش، وسبق أن تمّ تهجير المسيحيين العراقيين من كلدان وآشوريين بحجج مختلفة. كذلك تمّ القبض على رقبة لبنان بكل طوائفه بتسليط ميليشيا حزب الله وإطلاق يدها فيه، والأمر نفسه يجري في اليمن. مدنٌ بأكملها مسحت عن وجه الأرض في سورية، وسكّانُ مدنٍ أخرى لم يبق منهم أحد فيها، وهذا هو تماماً ما تفعله إسرائيل في غزّة.
هل تبدأ دولة المواطنة من خطابٍ تتبناه أقليّة سياسية منفيّة خارج حدود الوطن أو داخل أسوار سلطات الأمر الواقع فيه وداخل سجونها؟
يستخدم المشروعان خطاباً عفناً من مجاهل الغيب والتاريخ، وكلّ واحد منهما يعرف أنّ هذا النهج سيؤدي في النتيجة إلى نشوء خطاب مقابل، بل إلى تقوية الخطاب المقابل الموجود أصلاً والذي يحيل الصراع بدوره إلى حروب وجودٍ أسبابها دينية أو طائفية. فهل يقوى الخطاب الوطني الديمقراطي الليبرالي على مواجهة هذه الخطابات الدينية والطائفية؟ هل يمكن لخطاب العقلانية الأعزل مثل "نبيّ تروتسكي" من كل سلاح وعتاد عدا الكلمة أن يقاوم جيوشاً وأنظمة مدجّجة حتى أسنانها بكل ما هو فتّاك؟ وكيف السبيل إلى خلق واقعٍ ديمقراطي ليبرالي ما دام الديمقراطيون من الرجال والنساء أقليّة مسحوقة في كل هذه البلدان الخاوية على عروشها، وهل يبدأ الفعلُ من الكلام والمبادئ والقيم، أم من السلطة التي تتحكم في الأرض وترسم الحدود وتضع القوانين والأنظمة وتطبقها وتحتكر العنف أو توزّعه بما يؤدي في النتيجة إلى شرعنة عنفها؟ هل تبدأ دولة المواطنة من خطابٍ تتبناه أقليّة سياسية منفيّة خارج حدود الوطن أو داخل أسوار سلطات الأمر الواقع فيه وداخل سجونها؟ وهل يمكن لاتحاد هذه القوى والشخصيات الديمقراطية أن توجِد واقعاً من المتخيّل والمأمول؟ وبعيداً عن الشعارات والبيانات المُستهلكة، هل في مصلحة أيٍّ من دول الإقليم أو العالم إيجاد أنظمة ديمقراطية ليبرالية في لبنان أو سورية أو العراق أو اليمن... وهلمّ جرّاً من بلاد العُرب أوطاني؟
هذه وغيرها الكثيرُ، أسئلة لا تحتاج إلى إجابات فقط، بل تحتاج إلى أفعال يمكن أن تبدأ من الأفراد الذين يمتلكون بعض رفاهية العيش في بلدانٍ لا تقبض على أفكارهم واعتقاداتهم، وتسمح لهم بالتجمّع والعمل في أطرِ احترام قوانينها. ويمكن أن تبدأ أيضاً من تجمّع هؤلاء الأفراد في كياناتٍ ناشئة فعلاً أو يتمّ إنشاؤها في بلدان كهذه، لتقوم بدورها بخلق واقعٍ مؤثر فيها، كأن تشكّل كتلاً وازنة في الانتخابات، مما يستدعي انتباه السياسيين والأحزاب إليها، ومن ثم يبدأ فرض مصالح بلدانهم الأصلية باعتبارها قيماً معتبرة مؤثرة في هذه الدول كما حصل من خلال تأثير أصوات العرب والمسلمين في الانتخابات الأميركية الأخيرة. في ألمانيا مثلاً، ثمّة ما يزيد على مليون سوري، وهؤلاء في غضون سنوات قليلة سيكون لجزء وازنٍ منهم ثقلٌ انتخابي، ومن هنا يمكن البدء بمحاولات مهما كانت خجولة، لكنها قد تؤتي ثمارها لاحقاً ما دامت ستُزرع في أراضٍ خصبة لا في صحراء بور. وللحقيقة، التجربة قائمة فعلاً وثمّة من يدركها ويعمل عليها، لكن الوقت هو الحكم، فهل يمهلنا لنرى ما نرجوه؟
كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.