هل هي صحوة ضمير الشباب الغربي؟
يتصاعد غضب الطلاب الغربيين على ما يحدُث في غزة تحديداً، وهو غضب لا يمكن اختزاله في استنكار صارخ للجرائم البشعة التي يرتكبها الاحتلال، بل له أبعاد رمزية أخرى تشي مبدئياً بتعاطف مع "الفلسطينيين".
تأتي هذه التحرّكات متأخّرة نسبياً، لكن "أن تأتي متأخّراً أفضل من ألا تأتي" كما يقول المثل الفرنسي. يوحي هذا الـتأخير بأن خميرة أنضجت الموقف. خلال كل الأشهر السبع من الحرب في غزّة، أوغلت إسرائيل في الذهاب إلى درجة مرعبة من القتل والتشريد. لذلك لم يكن بالإمكان إطلاقاً إيجاد أدنى تبريرٍ لها، حتى ولو افترضنا أنها كانت ردّ فعل على ما جدّ في 7 أكتوبر، وهي الذريعة التي قدّمتها إسرائيل في الأيام الأولى، ونقلتها كبرى وسائل الإعلام تأثيراً في الرأي العام عموماً. والإشارة هنا إلى التغطية التي تولت تأمينها الشبكات الاجتماعية في العالم الغربي، والتي نعلم كيف أحكمت إسرائيل توجيهها والتلاعب بها. تذكر إحدى كبريات الصحف الفرنسية، بعد أن أجرت، وإنْ متأخّرة، تحقيقاً صحافياً دقيقاً يبين مزاعم إسرائيل الكاذبة، حين أوهمت أن المقاومة ارتكبت، في هجومها ذاك، أعمال اغتصاب وقتل للأطفال. وهذه من الروايات التي جرى، مع الوقت، دحضها لتبدو الحقيقة ساطعة، أنه قتل وحشي لا يبرّر، وليس مجرّد رد فعل، إنما سياسة ممنهجة عرّت الكيان الاستعماري البغيض.
كان علينا أن ننتظر حتى تذهب إسرائيل إلى أقصى درجات بشاعتها وجنونها، حتى نصل إلى مرحلة هذا التعاطف الطلابي منقطع النظير في الغرب مع القضية الفلسطينية. لم يكن الأمر رد فعل مفاجئاً ومؤقتاً على غطرسة صادمة، بل سارت الأمور بطيئة، ولكن في تراكم راسخ . ما إن تتشكل دائرة تعاطف ما تبدأ ضيقة حتى تتوسّع وتتجذّر لاحقاً. ثمّة دينامية خاصة للتعاطف الطلابي مع الغرب. ويندر أن نرى خروجاً من تلك الدوائر التي تتشكّل على غرار انشقاقات أو انسلاخات. رغم أن الوحدة الصمّاء داخل الحركات الاجتماعية هي مجرّد خطأ علمي وقع فيه باحثون بارزون عديدون، فداخل كل حركة اجتماعية، مهما بدت كتلة منسجمة وموحدة، توجد شقوق بين حين وآخر، وتباينات وتلوينات قد تكون جيلية، أيديولوجية، جندرية، مناطقية، إلخ.
تتغذّى هذه الانتفاضة الطلابية من عوامل داخلية، لعل أبرزها خيبات ولاية الرئيس بايدن، وخطر عودة ترامب إلى البيت الأبيض
وفي حال الطلاب الغربيين، ومنهم، تحديداً، الطلاب الأميركيون المنتفضون نصرة لغزّة، لا شك أن قراءة تشريحية لهذه الكتلة البشرية الضخمة ستبيّن، للوهلة الأولى، جملة من التباينات التي تثري المشهد وتمنحه مفردات هامة للقراءة: ثم نواة صلبة قادمة من اليسار الجامعي الذي ظلّ مناوئاً للسياسات الأميركية، وتحديداً في ما يتعلق بالقضايا الاقتصادية الداخلية والمواقف الأميركية. ولكن علينا ألا نتصوّره يساراً راديكالياً، على غرار يسارات أخرى. على خلاف ذلك، تماوت اليسار الطلابي الأوروبي بشكل مريع، وتحولت بعض قياداته وزعاماته إلى واجهات اليمين. وأوروبا كانت قد شهدت أواخر الستينيات حركة شبابية غيّرت السياسة مفردات وممارسة في عدّة دول. ولكن، للأسف لم يكن لها شغف بقضايا العالم الثالث، ومنها قضايا العالم العربي، وهذه مفارقة كبرى ... لا يمكن نكران أن تكون لبعض زعاماته تعاطفات سابقة مع استقلال الجزائر أو العراق لاحقاً. ولكن الحركة الشبابية الأوروبية، عموماً، ظلت تشتغل على مدارات أوروبية. وقد يكون لإرث اليسار الجامعي الأميركي دور كبير في إلهام الطلاب الأميركيين حالياً، ولكن المواقف المبكّرة التي سبقت، حتى الطلاب أنفسهم وعبّر عنها عمداء كليات وأساتذة مرموقون، كانت محفزة. لا نجد نظير هذا في الجامعات الأوروبية. ثمّة انحراف خطير في اليسار الجامعي الأوروبي، لقد شاهدنا مواقف متواطئة أو مرتبكة: هابرماس، إدغار موران، ... إلخ.
تدلّ الخريطة التي تعيد رسم انتشار الغضب الطلابي الأميركي أيضاً على هذا التراث المتجذّر في الاحتجاج الطلابي نصرة لقضايا عادلة، ومنها الحقّ في سلام عادل ومنصف، مناهضة الحرب ... إلخ. تتغذّى هذه الانتفاضة الطلابية من عوامل داخلية، لعل أبرزها خيبات ولاية الرئيس بايدن، وخطر عودة ترامب إلى البيت الأبيض، فضلاً عن ردود الأفعال الأمنية القمعية، وهي القطرة التي أفاضت الكأس. كان الرهان على القمع والتشدّد في ظل مزايدات اليمين المتصهين خاطئاً، وهو الذي يردّد أن التسامح الذي أبدته بعض الجامعات هو ما وسّع رقعة الغضب الطلابي وحشد مزيداً من المتعاطفين. لذلك كانت التوصية بإمساك المبادرة مجدّداً، والتعامل مع الطلاب بكل حزم: فضّ مخيماتهم، طرد، إيقافات ... إلخ . غير أن ردود الفعل كانت عكسية تماماً، أي مزيداً من التعاطف مع غزّة والفلسطييين عموماً.