صنّاع المحتوى في تونس... مبدعون أم منحرفون؟
شهدت تونسُ في الأسابيع القليلة الماضية توقيفات طاولت بعض صنّاع المحتوى، تلتها بعد أيام قليلة أحكامٌ قضائيةٌ صدرت في حقّهم، وصل بعضها إلى أربع سنوات ونصف سنة سجناً. يشار إلى أن تسمية هؤلاء "صناع محتوى"، التي اعتمدتها لاحقاً وزارة العدل في بلاغاتها (بياناتها)، تثير التباساتٍ عديدةً، حتى قبل هذه التوقيفات. سبقت هذه الأحكام بعض البلاغات التي صدرت عن الوزارة نفسها، فيها إعلان بداية تلك الحملة لتهيئة الرأي العام له، خصوصاً أن لهؤلاء الموقوفين متابعين، يعدّون أحياناً بالملايين داخل البلاد وخارجها.
لهؤلاء تسميات عديدة، فمنهم من ينسبهم إلى المنصّات التي يستعملونها، فيُنعَتون مثلاً بـ"الاستراغمورات" و"التيكتوكات"، إلخ، وهي تسميات لا تذكر المحتوى، بل تشير إلى المنصّات الافتراضية الواسعة التي ينشرون فيها مواقفهم وآراءهم، وحتى تجاربهم، وحيّزاً كبيراً من حياتهم الخاصة. بعضهم الآخر يصرّ على أنهم فعلاً صنّاع محتوىً، بقطع النظر عن مضامينه وفحواه ومواقفنا الذاتية منه. المحتوى قد غادر منزلته السابقة وأصبح يميل إلى الخفّة والدعابة وكثير من التفاهة والحمق، على غرار ما ذهب إليه العديد من الفلاسفة، ومنهم أمبرتو إيكو وآلان دونو.
غادر المحتوى منزلته السابقة وأصبح يميل إلى الخفّة والدعابة وكثير من التفاهة والحمق
استفاد صنّاع المحتوى ممّا أتاحته هذه التكنولوجيا الرقمية الهائلة، التي غدت بسيطةً زهيدةَ الثمن، ولا تتطلّب كثيراً من الذكاء والمهارة والمعارف. لقد منحت بذلك حقّ القول والتكلّم وإبداء الرأي لمن هبّ ودبّ. بعضهم لا يرى في هذه المواقف سوى تمسّكاً بمواقف قديمة وتقليدية ينتابها كثير من الغرور، تزعم أنها تمتلك الحقيقة، وهي ضمنياً تحتكر المحتوى. يستند هؤلاء إلى مفهوم مجتمع المعرفة الجديد الذي نزع من الخبراء والعلماء احتكار القول وإشاعته حقّاً مكتسباً للجميع، من دون استثناء. لم تتحقّق الشيوعية في المُلكية، ولكنّها تحقّقت في غير ما كان يتوقّع كارل ماركس؛ في الكلام. وتلك خطوة هامّة، حرّرت الناس من حالة الصمت والخرس التي كانت تصيب بعضهم لغاية ما. تكلّم الفقراء والمظلومون والمضطهدون والمرضى والمساجين، وفئات الضحايا كافّة، وأمكن لبعضهم أيضاً التكلّم على لسانهم وإسماع صوتهم خارج أصداء تلك الذوات المكلومة، التي عانت في صمت ومن صمت. يثير مفهوم التقاسم والمتابعة، ومختلف أشكال إبداء الإعجاب أو عكسه، دلالةً بليغةً على تلك الثورة العاطفية التي خلقتها هذه التطبيقات قبل الثورة المعرفية. تحوّل هذا الفضاء الافتراضي محيطاً هادراً من المشاعر قبل الفِكَر، وتلك هي جسامته البالغة.
لسنا في وارد استعراض مزايا "الإنترنتات" وبناتها، فهذا يحتاج مؤلّفات، ولكن حرصنا على بيان ذلك، حتى لا نسارع في شيطنة صنّاع المحتوى ونحاكمهم قبل الوقوف على ثقافة العصر، التي ألقت بهم في وجوهنا. في تونس، استفاد صنّاع المحتوى من عامل آخر لا يقلّ أهميةً عن قوة التكنولوجيات الرقمية، خصوصاً خلال عشرية الانتقال الديمقراطي، التي ألغت معها وزارة الإعلام ووكالة الاتصال الخارجي أشكال الرقابة المسبقة على المحتوى كافّة، فنصّ دستور 2014 على ذلك صراحةً ومن دون مواربة؛ ازدهرت الصحافة الإلكترونية وتنامى عدد المدوّنين، إلخ، وظهرت صحافة المواطنة والإعلام الجمعوي، إلخ. في هذه السماء المفتوحة برز صنّاع المحتوى، واحتلّوا مكانةً في بازار كبير مفتوح لا حدود له.
وهنا ملاحظتان تحتاجان إلى بعض التفصيل: أولاهما، أن جلّهم لا يشتغل بالسياسة إلّا نادراً، كأنّهم في كواكب أخرى، يعيشون عوالمهم الخاصّة والحميمية: الطبخ، الموضة، الرياضة، الحمية، التجميل، السياحة والتجوال، العلاقات العاطفية والنزاعات الزوجية، "الإتيكيت"، تربية الأطفال، العناية بالحدائق المنزلية وفنون التزويق، إلخ. وقد يذهب المحتوى إلى عوالم العتمة، إذ يتناولون الحميميات الخاصّة الموغلة في الجرأة إلى حدّ البذاءة. ثانيهما، افتقاد خطّ تحرير واحد لهذا المحتوى، فهو متنوّع، يتوزّع بين أجناس متعدّدة وأساليب مختلفة من الحكم والمواعظ والتنمية الذاتية (قريبة جدّاً من الشعوذة والتطبيب) والنصيحة والمرافقة النفسية والاستشارات ووصفات جاهزة للأمراض العضوية والنفسية المستعصية، إلخ. يستند هؤلاء إلى مختلف أساليب الإقناع؛ تجاربهم الخاصّة أو تجارب الغير، الدروس المستفادة من سير النجوم، النصائح والحكم المنتقاة، الإبهار والإشهار، الكاريزما وقوة النفوذ الشخصي، الخبرة، الإحصاء واستعراض الشواهد في موقعها وفي غير موقعها. غير أن الأمر لا يبدو بمثل هذه الوداعة، فقد تحوّل صنّاع المحتوى صنّاع رأي واسع أيضاً، خصوصاً لما لهم من تأثير في جمهور عريض، ليس له ما يكفي من آليات الغربة والفرز، كما يذهب في ذلك خبراء الإعلام التقليدي. يذهب الجمهور ويقبل على هذا السوق الفسيح من دون أدنى معارف، فاقداً، في أحيانٍ كثيرة، المعارف والمهارات التي تمنح حقّ التمييز بين الغثّ والسمين، وبين الصواب والخطأ، وبين الحقيقة والوهم.
لم تتحقّق الشيوعية في المُلكية، لكنّها تحقّقت في غير ما كان يتوقّع ماركس؛ في الكلام
في هذا البازار الفوضوي عرض صنّاع المحتوى التونسيون على أتباعهم ومحبّيهم بضاعتهم، التي رأى فيها بعضهم مسّاً بالحياء والأخلاق العامّة وسوء أدب، خصوصّاً وقد توجّهت إلى فئات هشّة من أطفال وفتيان ليس لهم ما يكفي من القدرة على الغربلة والتمييز. لذلك، وجّهت لهم رسمياً تهم من قبيل "التجاهر بما ينافي الأخلاق الحميدة" و"التغرير بقصّر" والاعتداء على الأخلاق، إلخ.
لا يزال الجدل محتدماً بين نصير لهؤلاء ومتشفٍّ وشامت (خصلة تونسية ذائعة الانتشار حالياً)، يستعرض المخيّمان الكبيران أصنافاً متعدّدة من الحجج والبراهين لتبرير مواقفهم المتناقضة، ولكنّ الثابت أن تطبيق القانون (وقد صدرت الأحكام)، لن يكون العصا السحرية لإيقاف تلك الفوضى والعبث. تعلّمنا التجارب أن القوانين قد تغيّر السلوكات، لكنّها لا تغيّر، في أحيانٍ كثيرة، الذهنيات (العقليات). في أحد تصريحاته، ذكر أحد القضاة الكبار أخيراً أن تطبيق العقوبات البديلة (العمل للمصلحة العامّة والتخلّي عن آليات السجن) أمر وارد. ربّما كان ذلك تلطيفاً من ردّات الفعل التي استهجنت صدور مثل تلك الأحكام، واعتبرتها تعدّياً صارخاً على الحقوق الأصلية للمواطن. الثورة الأخلاقية التي يشير إليها بعضهم في حماسة فيّاضة لهذه الحملة، لا تستقيم بمثل هذه المقاربة الزّجرية فحسب.