هل تغيّر فعلاً موقف أردوغان من الملفّ الفلسطيني؟
يثير موقف الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان من الحرب الإسرائيلية على غزّة أسئلة وتساؤلاتٍ عديدة، فيما إذا كان خطاب الرجل قد تغيّر، وأنّ ردّات فعله أقلّ من المطلوب ومن مستوى الحدث، وما عُهد عنه، بخاصّة عند وقفته المشهورة (2009) في مؤتمر دافوس ضدّ الرئيس الإسرائيلي، حينها، شمعون بيريز، أم أنّ المسألة لم تتجاوز التأخّر بعض الوقت في هضم ما حدث واستيعاب ردّات الفعل الدولية والغربية، إذ بدأ (أردوغان) مباشرةً، وفي نهاية شهر أكتوبر/ تشرين الأول (2023) بتوجيه انتقادات حادّة لإسرائيل ولحربها على غزّة؟
المزاج العام تعكسه استطلاعات الرأي ومواقع التواصل الاجتماعي، فبعدما كان أردوغان يُمثّل لملايين العرب والمسلمين قائداً يمتلك شعبيةً جارفة قبل السابع من أكتوبر (2023)، وتتصدّر تركيا الدول التي يُؤيّد الجمهور العربي سياساتها تجاه المنطقة العربية، وفقاً لأرقام "المُؤشّر العربي"، فقد سقطت شعبيتها بصورة ملحوظة إلى أقلّ من النصف عند من كانوا يروْن موقف تركيا جيّداً أو جيّداً جدّاً. وفي المقابل، تمكّنت إيران التي واجهت هبوطاً هائلاً في شعبيتها خلال الحرب على سورية من استعادتها، ومَنَحَها الرأي العام العربي رقماً مشابهاً للرقم التركي في الموقف من الحرب على غزّة، ما يعكس تحسّناً في مزاج الشارع العربي تجاه إيران وتراجعاً تجاه تركيا.
السؤال الذي يُطرح بصورة واقعية ومنطقية: ما الذي كان يمكن أن يقوم به أردوغان ولم يفعله؟ هل كان المطلوب تحرّكاً عسكرياً؟
ذهبت تحليلاتٌ إلى أبعد من ذلك، عندما عزت خسارة حزب العدالة والتنمية بلديات كُبرى، وتراجع شعبيته في الانتخابات المحلّية، هناك، إلى موقفه من الحرب على غزّة، الذي يبدو أنه لم يروِ غليل الجمهور "المحافظ" في تركيا، إذ ترى التحليلات نفسها أنّ حزب الرفاه الجديد، بقيادة نجل فاتح نجم الدين أربكان، يتقدم. كما استثمر خصوم الحزب، مثل رئيس الوزراء ووزير الخارجية السابق، أحمد داود أوغلو، فيما حدث ووجه انتقادات حادّة لأردوغان وموقفه "الضعيف"، كما رآه أوغلو، في موضوع غزّة.
لكن السؤال الذي يُطرح بصورة واقعية ومنطقية: ما الذي كان يمكن أن يقوم به أردوغان، وفقاً لرأي منتقديه، ولم يفعله؟ هل كان المطلوب تحرّكاً عسكرياً (أمر أظنّه مستبعداً إلى أقصى مدى)، هل هو تحرّك ديبلوماسي أكثر قسوة؟... لقد نعت أردوغان نتنياهو وحكومته بأكثر النعوت قسوة، وشبّههم بالنازيين ومجرمي الحرب والسفّاحين، ووصف ما يحدث بأنّه حرب الصليب على الهلال، وانتقد بشدّة تعاطي الغرب مع حرب الإبادة في غزّة، وأعلنت حكومته عقوبات اقتصادية على إسرائيل، وتبادل الطرفان، التركي والإسرائيلي، الاتهامات الشديدة، وتعهّد نتنياهو بمعاقبة تركيا، فهل كان يمكن أن نتوقّع أكثر من هذه الإجراءات؟... ربما الشيء الوحيد، الذي يجده خصوم الرجل، أنّ ردّة فعله تأخرت قليلاً في التفاعل مع عملية السابع من أكتوبر، وبدت التصريحات الأولية متحفّظة إلى درجةٍ ما، ثمّ تدرّجت الدبلوماسية التركية بصورة ملحوظة في التصعيد مع الجانب الإسرائيلي إلى أن وصلت إلى مرحلة عالية من التوتّر والانتقاد. وإذا سألتَ عن السبب في تأخر ردّات الفعل التركية فترة قصيرة، وتدرّج ردّة الفعل التركي، فإنّ الجواب مُرتبط بصدمة تركيا نفسها بعملية طوفان الأقصى، وحجم ردّات الفعل الدولية الغاضبة في البداية.
في المقابل، لم يتراجع دعم تركيا حركة حماس، ولقد استقبل أردوغان نفسه قادتها، ودعا رئيس مكتبها السياسي، إسماعيل هنية، إلى تركيا، كما يتنقّل قادتها بين الدوحة وإسطنبول ويلتقون، في كثير من الأوقات، مسؤولين أمنيين وسياسيين أتراكا، ومن بينهم وزير الخارجية هاكان فيدان. أكثر من ذلك، حرصت حركة حماس على تأكيد علاقتها القوّية بتركيا، من خلال طلبها أن تكون تركيا ضامناً لتنفيذ أيّ اتفاقية لوقف إطلاق نار في غزّة (بينما حرصت الولايات المتّحدة وإسرائيل على إبعاد تركيا عن أيّ أدوار مباشرة، حتّى ولو على صعيد الوساطات لوقف إطلاق النار). ربما جاءت خيبة الأمل لدى الشارع العربي من الموقف التركي (بالإضافة إلى تأخّر ردّات الفعل قليلاً) مرتبطة بـ"السقف العالي" للتوقّعات فيما يتعلّق بأردوغان وخطابه ومواقفه، مع الشعور بالمرارة من المواقف العربية ومن حجم التدمير الإسرائيلي والمجازر الكبيرة في حقّ الفلسطينيين، من جهة، ومن المقارنة بالموقف الإيراني، الذي وإنْ مثّل هو الآخر خيبة أمل، مقارنةً بسقف التوقّعات المرتفع مسبقاً، إلّا أنّ حلفاء إيران (حزب الله، والحوثيين، وما تسمّى المقاومة الإسلامية في العراق) حاولوا على الأقلّ القيام بالحدّ الأدنى من الفعل، وفقاً لهذه الزاوية من الرؤية. والشيء بالشيء يذكر؛ نجد أنّ الموقف من إيران وتركيا يعكس تبايناً داخلياً كبيراً بين أجنحة حركة حماس، فبينما يتمتّع خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي للحركة في الخارج، سابقاً، بعلاقات قوّية مع كلّ من تركيا وقطر، فإنّ الجناح المسلّح للحركة في غزّة يقترب أكثر من إيران، وكان هذا سبباً في الخلافات الداخلية، وأحد مبرّرات التغييرات القيادية وانتقال الثقل، خلال الأعوام السابقة، إلى قطاع غزّة، بعدما كان المكتب السياسي في الخارج يمثّل خلال مرحلة طويلة مركز القرار السياسي للحركة.
من الضروري ألاّ نتجاهل أنّ أردوغان بدأ، بالفعل، بـ"تحويلة سياسية"، خلال الأعوام الأخيرة، ويهمس مُقرّبون من الرجل أنّ نسخته بعد الانتخابات الرئاسية، أخيراً (في 2023، وبعد الأزمة الاقتصادية في تركيا، والتضخّم الملحوظ، وتراجع قيمة الليرة التركية، ومحاولة الانقلاب الفاشلة في 2016، وتراجع الرهانات على الربيع العربي في المرحلة الأخيرة)، شهدت استدارات، من ضمنها، تخفيف التوتّر مع مصر، وتدشين اتصالات ومفاوضات بين البلدين، ووساطة روسيا التي لم تكتمل لتحسين العلاقات بين أردوغان والرئيس بشّار الأسد، عشية الانتخابات التركية، وزيارة الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ تركيا في 2022، والمباحثات التركية - الإسرائيلية لتطوير العلاقات وتحسين التعاون بين الدولتَين، وتحسين العلاقات مع كلّ من الرياض وأبو ظبي.
من الواضح أنّ عملية طوفان الأقصى لم تقطع الطريق على فكرة "السلام الإقليمي"، ورحّلت المفاوضات السعودية - الأميركية، وما تضمّنته من مقترح لتطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل فقط، بل أيضاً، أحدثت تحويلة على التحويلة التركية، بخاصّة فيما يتعلق بالتحسن المُطّرد الذي كانت تشهده العلاقات التركية - الإسرائيلية منذ العام 2022.
الحرب في غزّة أظهرت أنّ العاطفة الفلسطينية جيّاشة لدى أردوغان، وتتغلّب على عمليات إعادة التصميم الهندسية للديبلوماسية التركية في المنطقة
هل "التحويلة التركية" مفاجئة لشخصية شعبوية مثل الرئيس أردوغان؟... الجواب لمن يعرفونه جيداً؛ لا، لأنّه سياسي براغماتي من طراز رفيع، يتقن القيام بالتحويلات والتحوّلات والتكيّف مع الظروف السياسية المختلفة، ومراجعة المسار، والفصل الواقعي بين ما يؤمن به وما يحمله من عواطف، من جهة، والواقع السياسي، من جهةٍ أخرى، وعلى ما يبدو أنّ هنالك مراجعات أجريت في الحلقة المقربة منه (أو التي بقيت حوله بعدما اختلف مع أصدقائه القدامى وانشقّوا عن الحزب)، وبُنيَ على ذلك التخلّي عن النظرية التي سادت في الربيع العربي، أي الرهان على قطار التغيير والمرحلة الديمقراطية في المنطقة، والقيام بدور الجسر بين الإسلام السياسي والعالم الغربي، والعودة إلى المقاربة الواقعية التي كان الحزب يتبنّاها قبل الربيع العربي، أو ما كان يعرف بـ"صفر مشكلات"، وردّ الاعتبار إلى المصالح الاقتصادية والأمنية المشتركة مع العالم العربي، لذلك، وجدنا هنالك عمل شاقّ قام به فريق الرجل لإعادة ترميم العلاقة مع الأنظمة العربية، والتغلّب على مواقف أردوغان السياسية المعروفة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، والقدس، والموقف من نظام الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي، إلّا أنّ تطوّرات الحرب في غزّة أظهرت، كما يقول المُحلّل التركي ريتش أوتزن، مرّة أخرى، أنّ العاطفة الفلسطينية جيّاشة لدى أردوغان، وتتغلّب على عمليات إعادة التصميم الهندسية للديبلوماسية التركية في المنطقة.