هذا التقدّم في مواقف الأميركيين من القضية الفلسطينية

18 يونيو 2022

عضوان في منظمة يهودية أميركية لمقاطعة إسرائيل في احتجاج في فلوريدا (2/6/2022/فرانس برس)

+ الخط -

أظهر أحدث استطلاع تقوم به إحدى أكثر مؤسسات استطلاع الرأي مصداقية في الولايات المتحدة (Pew Research) بشأن موقف الشباب الأميركي من الفلسطينيين والإسرائيليين أنه لأول مرة يعطي هذا الشباب، ضمن الفئة العمرية 18- 30 سنة، تأييداً أكبر للفلسطينيين بنسبة 61%، مقابل فقط 56% للإسرائيليين عام 2022، في حين أن النسبة عام 2019 كانت 58% للفلسطينيين، مقابل 63% للإسرائيليين. وعلى الرغم من التفوق الفلسطيني ضمن هذه الفئة العمرية، إلا أن النسبة لا تزال ترتفع لدى الإسرائيليين (67%) مقابل الفلسطينيين (52%)، عندما تُحتسب آراء الأميركيين جميعهم وضمن كل الفئات العمرية (18 - 65 عاما فأكثر).

لا يمكن اعتبار نتائج الاستطلاع هذا لحظية متأثرة بحدث معين، مثل استشهاد الصحافية شيرين أبو عاقلة، وذلك لتطابقه مع نتائج استطلاعات سابقة تسير في هذا الاتجاه، وإن لم تصل النسبة إلى هذا الحد في السابق، ففي استطلاع رأي أجراه مارك لينتش من جامعة جورج واشنطن وشبلي تلحمي من جامعة ميريلاند عام 2021، وصف 59% الوضع الحالي في الضفة الغربية وقطاع غزة بأنه "حقيقة الدولة الواحدة الشبيه بالأبارتهايد".

لم يقتصر التحول في المواقف الأميركية على الفئة العمرية المشار إليها، بل امتد إلى القواعد الحزبية ككل، ولدى جميع الأعمار، حيث طاول، بشكل أساسي، الأعضاء في الحزب الديمقراطي، حيث أجاب 64% من الحزبيين الديمقراطيين (جميع الأعمار) أن لديهم وجهة نظر إيجابية تجاه الفلسطينيين، في حين أجاب 60% من الحزبيين الديمقراطيين أن لديهم وجهة نظر إيجابية تجاه الإسرائيليين. وهذا تحول كبير في الموقف الأميركي، وتحديداً الشعبي، خلال السنوات القليلة الماضية، ويعطي مؤشّراً إلى أن هذا التحول آخذ بالتعاظم باتجاه رؤية أكثر توازناً مما كان عليه الحال خلال العقود الماضية، عندما كان يتسم بالانحياز الجارف باتجاه دعم إسرائيل. وللرأي العام في المجتمعات الغربية دور حيوي في صناعة السياسة الخارجية، ما يعود إلى طبيعة النظام السياسي السائد في هذه المجتمعات، فالنظام السياسي الديمقراطي يسمح للمواطن وللرأي العام بمساءلة القادة السياسيين ومعاقبتهم أيضاً في صناديق الاقتراع، وهو ميكانزم تفتقد إليه الأنظمة السياسية الفردانية التي يصنع بها الرئيس القرار السياسي بمعزل عما يدور في عقول مواطنيه.

وقد كان للتحول في الرأي العام الأميركي، وتحديداً في القواعد الحزبية للحزب الديمقراطي، باتجاه الموازنة في الموقف من الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، دور مباشر في التغيير الذي أصاب مواقف رموز عديدة في هذا الحزب. وهنا لا يدور الحديث فقط عن مواقف مرشّح الرئاسة اليساري بيرني ساندرز، الذي تفوق على كل سابقيه في موضوع مساءلة إسرائيل على أفعالها، بل لدى رموز تاريخية عريقة في الحزب، عرفت في الماضي بمواقفها الصقورية بالدفاع عن إسرائيل وحمايتها من كل نقد. في مقدمة هؤلاء، تقف مرشّحة الرئاسة، أيضاً، إليزابيث وورن، التي كان موقفها عام 2014 فقط، وفي أثناء الحرب الإسرائيلية على غزة، كالتالي: "تعيش إسرائيل في جزء خطير جدًا من العالم، وفي جزء من العالم لا يوجد فيه عديد من الديمقراطيات والديمقراطيات الليبرالية التي يسيطر عليها حكم القانون. ونحن بحاجة ماسّة إلى حليف في هذا الجزء من العالم"، هي نفسها انتقدت عام 2018 "استخدام إسرائيل القوة المميتة ضد المتظاهرين في غزة في عام 2018"، وعارضت اقتراح تجريم مقاطعة إسرائيل في الكونغرس. ليس هذا فحسب، بل طالبت عام 2021 بالبحث في جعل المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل مشروطة بعدم استخدامها في الأراضي الفلسطينية، وهو أمر يعدّ الحديث فيه، عادةً، من المحرّمات في السياسة الرسمية الأميركية.

المعركة مع المشروع الكولونيالي في فلسطين يخوضها المجتمع المدني وحده وبأدوات المعركة الجديدة، ومن دون دعم رسمي من القيادة الفلسطينية

للتحول في المواقف الأميركية أسباب عديدة، منها، على سبيل المثال، تراجع نفوذ "القوة الناعمة" الإسرائيلية التي صوّرت إسرائيل ضحية في هذا الصراع، ولأنها أقرب "ثقافيا" للغرب من أي طرف عربي آخر. وهذا بالتالي يفرز "تحالفاً حضاريا" بينهما. وكان لانتشار وسائل التواصل العالمي دور محوري في هذا التراجع. وساهم أيضاً في تراجع نفوذ القوة الناعمة الإسرائيلية في الغرب النشاط المكثف لمنظمات المجتمع المدني، سواء المتمثلة بحركة المقاطعة أو غيرها، كما شكلت تقارير منظمتي هيومن رايتس ووتش، ومقرّها نيويورك، و"العفو الدولية"، عن تصنيف إسرائيل دولة أبارتهايد حجر الزاوية في ضرب التعاطف مع إسرائيل في الغرب.

ما زال هذا التحول في المواقف الحزبية والشعبية الأميركية يُواجه بصمت رسمي فلسطيني، إثر المراهنة على المواقف الرسمية التي رعت عملية السلام منذ اتفاق أوسلو في 1993، ولم يؤدّ ذاك المسار إلا إلى خيبات أمل متواصلة لنهج "التفاوض بلا أسنان"، فيما يشكل التحول فرصة سانحة لابتكار نموذج عمل فلسطيني من نوع آخر، أهم معالمه:

أولا، تجاوز نموذج أوسلو القائم على التفاوض بلا نهاية و"بلا أسنان". أدبيات التفاوض عبر التاريخ الإنساني تقرّ بأن أي عملية تفاوض هي انعكاس لموازين قوى، والضعيف الذي بلا قوة، كما فعل الفلسطينيون منذ 1993، يذهبون إلى طاولة المفاوضات ليقبلوا ما يُعطى لهم، ولا يمكنهم التأثير في الأجندة التفاوضية وهم ضعفاء.

ثانياً، يعطي هذا التحوّل في المواقف الشعبية والحزبية الأميركية بريق أمل، اذا ما تم استثماره ليعوّض جزءا من القوة المفقودة فلسطينياً في عالم المفاوضات. لا أحد يمكن له أن يغير موقف السياسي الأميركي، مثل التغير في قاعدته الحزبية أو الرأي العام الذي سيحاسبه في أول انتخابات، وبالتالي، هم ملزمون باتخاذ مواقف سياسية تتناغم مع موقف الرأي العام، كما حدث مع وورن، وحتى جوزيف بايدن نفسه الذي كان يفاخر بأنه صهيوني رغم كونه غير يهودي، اضطر إلى اتخاذ مواقف معتدلة نسبياً في أزمة حي الشيخ جرّاح في القدس أخيرا. وجدير بالذكر أن هذا المصدر من القوة لا يلغي مصادر القوة الأخرى التي يمكن للفلسطينيين الاستثمار بها، مثل المقاومة الشعبية وغيرها.

تحوّل في مواقف الأميركيين آخذ بالتعاظم باتجاه رؤية أكثر توازناً مما كانت عليه من انحياز جارف باتجاه دعم إسرائيل

ثالثاً: طبيعة المعركة مع الاحتلال الإسرائيلي تغيرت أو تطورت (سمّها ما شئت) عما كان عليه الحال، فعوضاً عن أن تكون ساحة المعركة في السابق محصورة بالقرية والمخيم والمدينة الفلسطينية، أصبحت الجامعات والمحاكم الأميركية مثلا ساحات إضافية ومهمة لمقاومة المشروع الكولونيالي الإسرائيلي في فلسطين. ولا بد هنا من ذكر مثال الصحافية الأميركية آبي مارتن التي انتصرت قضائياً في المحكمة على ولاية جورجيا، التي حاولت قوانينها أن تفرض على مارتن التوقيع على عدم مقاطعة إسرائيل حتى يجوز لها أن تلقي محاضرة في أحد جامعاتها العريقة. ويفرض هذا التطور في طبيعة المعركة على الفلسطينيين تطوير أساليب نضالهم، لتركز على ساحات المعارك الجديدة هذه.

رابعاً، السلطة الفلسطينية بشكل خاص بحاجة إلى أن تهتم بحلفائها الجدد (الرأي العام والقواعد الحزبية) في الولايات المتحدة وأوروبا، وتطوّر أساليب التواصل معهم وتوظيف الكوادر المختصة في القانون والاتصالات والإعلام وغيرها ليقوموا بذلك. على السلطة ألا تخشى مثل هذا التواصل، فلدى النظام الأميركي من المرونة ما يسمح بالمنافسة المحكومة بالقانون، وهو ما استغلته إسرائيل تاريخياً، وأعطاها النفوذ على الساسة الأميركيين لدعم مواقفها.

للأسف، يبدو أن المعركة مع المشروع الكولونيالي في فلسطين يخوضها المجتمع المدني وحده وبأدوات المعركة الجديدة، والذي كان له الفضل الأساسي بإحداث حالة التحوّل، من دون دعم رسمي من القيادة الفلسطينية التي يفترض أنها تمثل رأس الحربة في هذه المعركة، فهل آن لها أن تفهم طبيعة المعركة الجديدة، وتقلع عن "مفاوضاتها العبثية" التي تخلّى عنها جميع الأطراف، وبقيت متمسكة بها هي، إما لعجزٍ أو قلة حيلة أو قلة فهم لطبيعة المعركة الجديدة، أو في سبيل المحافظة على امتيازاتٍ شخصيةٍ بالية.

72478755-BF4C-4404-BEA5-3BD4550BCDF4
72478755-BF4C-4404-BEA5-3BD4550BCDF4
إبراهيم فريحات
أستاذ النزاعات الدولية في معهد الدوحة للدراسات العليا وسابقاً في جامعتي جورجتاون وجورج واشنطن ومعهد بروكينجز. من مؤلفاته "وساطة الصراع في العالم العربي (جامعة سيركيوز- الولايات المتحدة 2023) و"إدارة صراع فوضوي" (جامعة أدنبرة في بريطانيا 2020) و"ثورات غير مكتملة" (جامعة ييل في الولايات المتحدة 2016).
إبراهيم فريحات