هاربون إلى الوراء

22 اغسطس 2024

(فادي يازجي)

+ الخط -

هل هو نكوص، أم رِدَّة؟ أم أنّه مُجرَّد شعور مؤقّت بالحنين إلى الماضي، بأحداثه وأشخاصه ومواقفه، يجعلنا أحياناً نحاول استدراج ذكرياتنا القديمة، لا للتفكر فيها وحسب، بل لإعادة إنتاجها بصورة أو بأخرى، والعيش في سياقاتٍ نصنعها وفق ما نحن عليه، متجاهلين ما مرّ بنا كلّه، منذ تركناها وغادرنا نحو يوم آخر أو أيام أخرى؟

ما الذي يشدّنا إلى الوراء كلّما تقدّم بنا العمر، وتغيّرت أحوالنا، حتّى وإن كان هذا التغير إلى الأفضل نسبياً؟... هناك أسبابٌ كثيرة تدفع الناس إلى الهروب من الحاضر والانغماس في الماضي وذكرياته، ففي عالم سريع الإيقاع ومليء بالتغييرات المستمرّة، يجد كثيرون منّا الراحة والأمان في العودة إلى الماضي وتذكّر الأحداث والتجارب السابقة، يستدرج تلك الأحداث، ويحاول ردمَ الثغرات التي خلّفها الزمن وتحوّلاته فيها، ربّما لأنّ الماضي (بغضّ النظر عن تعريفه واختلافنا) يمنحنا إحساساً بالاستقرار والثبات في وجه ما يبدو غير مُؤكّد في الحاضر، وأيضاً في المستقبل. وربّما لأنّ منطقة الراحة والأمان في الماضي هي المنطقة الوحيدة المُؤكّدة، ما دمنا قد غادرناها فعلاً.

نستذكر الأوقات الجميلة التي مررنا بها، والأشخاص الذين عشنا معهم أو قابلناهم أو عملنا معهم أو أحببناهم أو تقاطعنا معهم يوماً. نعود إلى النجاحات والإنجازات التي حققناها ومحطّات الفشل التي تجاوزناها. نرجع إلى الأيام الجميلة ببطء لنفتش بين ثناياها عمّا جعلنا نصفها بالجمال طوال السنين التي مرّت عليها، عمّا جعلنا نَحِنُّ إليها ونبتسم أو تدمع أعيننا إن مرّت في البال.

تساعدنا الذكريات على الهروب من ضغوط الحياة اليومية، وتمنحنا الراحة النفسية التي نحتاجها لنستمر، وأحياناً تثير فينا الرغبة بإنتاج ذكريات جديدة تصبح هي الماضي الحلو في قادم الأيام والسنوات.

وبالإضافة إلى الاستقرار والأمان، يشعر كثيرون منّا بالحنين والشوق للماضي لأسباب أخرى؛ فربما كانت هناك فترات في حياتنا أكثر سعادة وانسجاماً من الحاضر. وقد يكون هذا الشوق ناتجاً من التغييرات التي مرّت بنا، أو الخسائر التي تكبّدناها، أو الندم على ما فات. وفي هذه الحالات، يصبح الماضي ملاذاً آمناً نحتمي به من عدم اليقين والتحدّيات الراهنة.

كما أنّ الهروب إلى الماضي قد ينشأ عن الرغبة في تجنّب مواجهة المشكلات الحالية، فبدلاً من التصدّي للصعوبات والتحدّيات التي نواجهها، نفضلُّ الانغماس في الذكريات والأحداث السابقة التي كانت أبسط وأسهل. هذا قد يكون استراتيجيةً دفاعيةً للحفاظ على صحّتنا النفسية، لكنّه، في الوقت نفسه، قد يعرقل نموّنا وتطوّرنا الشخصي، فالتغلب على المشكلات وتطوير قدراتنا على التكيف مع التغيير هو الطريق الأمثل إلى تحقيق التقدّم والازدهار في حياتنا.

ينطوي الهروب إلى الماضي أيضاً على الرغبة في العودة إلى الشعور بالأمان والانتماء. نشعر بالوحدة والعزلة في الحاضر، خاصّة إذا مررنا بتغييرات كبيرة في حياتنا الاجتماعية أو العائلية. وفي هذه الحالات، قد نستعيد الشعور بالأمان والانتماء من خلال استحضار ذكريات الماضي وإعادة إنشاء تلك البيئات الآمنة. مع ذلك، علينا أن ندرك أنّ الحاضر هو الوقت الحقيقي للبناء والتطور، وأنّ علينا المضي نحو المستقبل.

صحيح أنّ الذكريات الجميلة قد توفّر الراحة والاستقرار في وجه تحدّيات الحياة الحالية، ولكن ينبغي لنا أن نتذكّر دائماً أنّ الحاضر والمستقبل هما الفرصتان الحقيقيتان لإحداث التغيير والنمو الشخصي. علينا أن نجد التوازن بين الاستفادة من دروس الماضي وبناء مستقبل أفضل. فقط بهذه الطريقة سنتمكن من الاستفادة من ما يُقدّمه لنا الزمن.

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.