السخرية فعل مقاومة
كتب غسّان كنفاني مرّة إن الكاتب "كي يستطيع أن ينتقد بسخرية، فإنه أولاً يجب أن يمتلك تصوّراً لما هو أفضل، أو لما كان يجب أن يكون". وتتجاوز هذه العبارة السخرية أداة أدبية بسيطة لتُظهر أن خلف كل نقد ساخر رؤية كامنة لعالم مختلف أو أفضل، فالسخرية، إذن، ليست مجرّد أداة تهكمية للتهجّم أو الانتقاد، بل سلاح المبدع الذي يرى الفجوة بين ما هو كائن وما كان ينبغي أن يكون.
وهذا يعني أن السخرية من أشكال النقد الحادّ، لكنها تختلف عن النقد المباشر في أنها تتسم بالخفّة والذكاء والظرافة، فهي تعبّر عن انتقادات لاذعة لكن بطريقة فكاهية أو ملتوية، تجعل المتلقّي يبتسم قبل أن يشعر بثقل الرسالة التي تحملها. لكنها، وهذا مهمٌّ، ليست فقط فضحاً لعيوب المجتمع أو المؤسّسات، بل محاولة لتقديم نقد بنّاء يوحي بما يجب أن يكون عليه الوضع، فهي لا تكتمل إلا عندما تتضمّن، ضمناً أو علناً، صورة بديلة أكثر عدالة أو منطقية.
والكاتب الساخر، كما يفهمه كنفاني على الأقل، ليس مجرّد ناقد يكتفي بتسليط الضوء على السلبيات، بل صاحب رؤية مثالية، وإن بدَت غير قابلة للتحقّق في الواقع الراهن. وبهذا تصبح سخريته وسيلة مزدوجة؛ كشف للخلل القائم وإيحاء بإمكانية تجاوز هذا الخلل. ... هذا هو جوهر الأدب الساخر الرفيع الذي لا يكتفي بجلد الذات أو المجتمع، بل يحفّز على التأمل في ما يمكن أن يكون.
ولطالما كان الأدب الساخر صوتاً للتمرّد في مختلف الثقافات، فقد استخدم أدباء عديدون، جوناثان سويفت في رحلات جلفر على سبيل المثال، السخرية لتوجيه نقد لاذع إلى أنظمة سياسية واجتماعية فاسدة، وفي الوقت نفسه، يقدّمون رؤى طوباوية ضمنية لعالم مثالي. وفي الأدب العربي، لا يمكن تجاهل السخرية في أعمال كتّاب، مثل يوسف إدريس ومحمد الماغوط، حيث تبدو كتاباتهم صرخة احتجاج مموّهة بالمرح والأسى.. ولمعنى آخر ضحك كالبكا، كما يقول المتنبي! وهو ما يخوّلها في جوهرها لفعل مقاومة، فهي تنبُع من شعور عميق بالخيبة تجاه ما هو موجودٌ، لكنها لا تتوقّف عند حدود الخيبة، فالكاتب الساخر، حتى في أحلك الظروف، يواصل إيمانه بقدرة الأدب على تقديم بدائل، ولو في الخيال. لهذا السبب، تتطلّب السخرية جرأة مضاعفة؛ جرأة في مواجهة الواقع، وجرأة في الحلم بتغييره.
ومن يسخر من الواقع، يفعل ذلك لأنه ما زال يؤمن أن هناك إمكانات ضائعة ينبغي تحقيقها. الكاتب الساخر، وفقاً لذلك، أشبه بفنان يحلم بلوحة مثالية، لكنه عالقٌ في واقع مليء بالعيوب. ومن هنا، تصبح السخرية أداة تفكير نقدي عميق، تشجّع القارئ على طرح أسئلة بشأن ما يمكن أن يتغيّر، وما هو دور الفرد في هذا التغيير.
وعندما يواجه المتلقّي نصّاً ساخراً، فإنه لا يواجه فقط انعكاساً مشوّهاً للواقع، بل يواجه دعوة ضمنية إلى إعادة التفكير في هذا الواقع وإدراك احتمالاتٍ أخرى، ذلك أن الأدب الساخر يُبقي جذوة الأمل مشتعلة، حتى عندما يبدو كل شيءٍ محبطاً؛ لأنه يوحي بأن ما نضحك عليه اليوم يمكن أن يكون بوابة لتحوّلات أكبر غداً.
والقول إن السخرية فعلٌ ناقدٌ يتضمّن بالضرورة أفقاً أخلاقياً يعكس الالتزام بتحقيق الأفضل، فغسّان كنفاني لا يتحدّث عن السخرية باعتبارها تهكماً عابراً، بل باعتبارها فعلاً أدبياً مسؤولاً ينطوي على قلقٍ وجودي، حيث يتساءل الكاتب باستمرار: كيف يمكن أن يكون العالم أكثر إنسانية؟ ليست السخرية في هذا السياق مجرّد هروبٍ من الألم، بل هي من أشكال الاشتباك الجادّ مع هذا الألم، ومن ثم محاولة تجاوزه.