المقاومة حتمية لا خيار فيها

24 أكتوبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

في ظلّ الحروب والنزاعات المسلّحة، أيّاً كان نوعها، تُطرح دائماً تساؤلاتٌ بشأن توقيت المقاومة وشرعيّتها، وما إذا كانت تمثل استفزازاً للمحتلّ أم أنّها السبيل الوحيد لاستعادة الحقّ المسلوب، فالحديث عن المقاومة يفتح باب النقاش في معاييرها، وأسبابها، وتوقيت انطلاقها. وهنا علينا أن نتساءل متى كانت المقاومة استفزازاً للمحتلّ، ومتى كانت هي النصر المضمون فقط؟ وهل توجد مقاومة مضمونة النتائج مسبقاً؟
لم تكن حروب التحرير يوماً نزهة مريحة، ولم تبدأ يوماً بتكافؤ في القوة بين الطرفَين، فالمقاومة تُفرَض على الشعوب عندما تُغزَى أوطانها، وتُسلَب أراضيها، وتُنتَهَك حقوقها. ومع ذلك، ليست المقاومة حالة من التهوّر والاندفاع غير المحسوب، بل هي موقف حتمي تدفع إليه الظروف القاسية. وعندما يحتلّ عدو غاشم أرضاً وينتهك الحقوق، يكون من الطبيعي أن تدافع الشعوب عن حقّها ولو كانت في موقف أضعف.
يشهد التاريخ أنّ شعوباً عديدة تحرّرت، رغم أنّ ميزان القوى لم يكن لصالحها. ولو انتظرت هذه الشعوب حتّى يتساوى الفريقان في العدد والعدّة، لما تحرّرت. والأمثلة على ذلك كثيرة، أبرزها الشعوب التي كانت تحت الاستعمار الأوروبي مثل الجزائر، إذ لم تمتلك القوة الكافية لطرد الاستعمار الفرنسي الذي كان من أقوى القوى العسكرية آنذاك. رغم ذلك، تمكّن الجزائريون من استعادة حرّيتهم بعد سنوات طويلة من المقاومة الدموية والتضحيات.
ثمّ إنّ الحديث عن المقاومة في الظروف غير المتكافئة لا يعني البحث عن النصر المضمون. النصر في المقاومة لا يُقاس دائماً بالحسم العسكري المباشر، بل بقيمة الدفاع عن الكرامة والحقوق، حتّى إن كانت النتائج غير مؤكّدة. وفي الآية الكريمة "كُتب عليكم القتال وهو كرهٌ لكم، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم"، يُذكّرنا الله بأنّ القتال ليس خياراً سهلاً، ولكنّه قد يكون خيراً رغم كراهية النفس له. وحتّى على الصعيد الشخصي، عندما يُحتلّ بيتكَ وتُقتَل عائلتك، وليس لديك خياراتٌ كثيرة، هل ستسكت وتكتفي بمساحة صغيرة من بيتك تسمح لك بالعيش فيه؟ أم ستدافع عنه، ولو لم تمتلك من السلاح سوى حجر صغير؟
يمثل هذا السؤال جوهر فلسفة المقاومة. لن تقف الشعوب ساكنة، ولن تقبل بالهزيمة المسبقة، لأنّ العدو يمتلك أسلحة أقوى. قد لا تملكَ شيئاً سوى حجر، ولكنّكَ ستقاتل، لأنّ هذا هو الخيار الوحيد للحفاظ على كرامتك. ليست القوّة مادّية فقط، فهناك قوة الإيمان بالحقّ، والعزيمة على الصمود حتّى النهاية.
المقاومة الفلسطينية في غزّة مثالٌ حيٌّ على هذا الصمود. لقد مرّت سنوات طويلة والمقاومة مستمرّة، رغم الحصار، ورغم التفوق العسكري الواضح للعدو. هذا الصمود، رغم عدم تحقيق الحسم الكامل، يدحض فكرة أنّ المقاومة يجب أن تبدأ فقط عندما تتساوى القِوى. والانتقاد الموجّه للمقاومة أثناء تصدّيها للعدو قد يفهم من المقاوم في لحظة ما أنّه اصطفافٌ غير مباشر مع المحتلّ، مهما كانت النياتُ وراءه، فالمقاوم هو الوحيد الذي يملك الحقّ في تقدير الموقف في الأرض، لأنّه يعيش المعركة بتفاصيلها كلّها.
تستحقّ الحرّية التضحيات، ولو انتظرت الشعوب حتّى تتساوى موازين القِوى، لما قامت الثورات ولا تحرّرت الأوطان. وما يحدُث في غزّة اليوم يعكس هذه الحقيقة، ومن يلوم المقاومة ينسى أنّ السبب الرئيس هو العدو المحتلّ، الذي يرفض الوصول إلى حلول عادلة.
لذلك، ينبغي أن نتذكّر دائماً أنّ المقاومة ليست قراراً عبثياً، بل قراراً يستند إلى مبدأ الدفاع عن الحقوق والكرامة. ومهما كانت الظروف، تظلّ الشعوب في مواجهة المحتلّ مطالبة بالوقوف والصمود، لأنّ خيار الاستسلام لم يصل بأحد يوماً ما إلى الحرّية.

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.