نهاية الإسلام السياسي أم بداية جديدة؟
ما من محطةٍ من المحطات السياسية تمرّ بها بعض الأقطار العربية، حتى تزفّ "البشرى" السعيدة بطي صفحة الإسلام السياسي إلى غير رجعة، وترتفع مقولات فشل الإسلام السياسي وموته، ومشتقاتهما من البعديات والنهايات.
بدايةً، وعلى الرغم من الالتباس والتحيز اللذين طبعا مصطلح الإسلام السياسي، إلا أنه يمكن القبول به لغاياتٍ عملية، وذلك لشدّة جريانه على الألسنة وسيلانه على الأقلام، بشرط ضبط حدوده ودلالته العامة. ما يُقصد بالإسلام السياسي، هنا تحديداً، الحالة السياسية الإسلامية في خطّها العريض، التي يعبّر عنها عادة بالتيارات المعتدلة، أو ما بات يوصَف في أدبيات الإسلاميين بالتيارات الوسطية، ولا أتحدّث هنا عن التعبيرات الجذرية والعنيفة، أو الجماعات السلفية بمختلف مكوناتها، التي غالباً ما تُقحَم تعسّفاً في خانة الإسلام السياسي.
في تسعينيات القرن الماضي، وفي أجواء المواجهة بين الجبهة الإسلامية للإنقاذ والجيش الجزائري، التي تحوّلت فيما بعد إلى ما يشبه الحرب الأهلية المفتوحة، نشر الباحث الفرنسي، أوليفييه روا كتابه "فشل الإسلام السياسي"، وكان ملخصه العام أن مسار الجبهة الجزائرية، بشعاراتها الدينية الصاخبة، ثم صعود جماعات العنف من التي تشكلت من صلبها بعد صدامها مع الجيش، تعطينا صورة مكثفة عن المآلات المستقبلية للإسلام السياسي برمته. أما اليوم، وبعد التدحرج الانتخابي الكبير الذي شهده حزب العدالة والتنمية في المغرب، ثم الانقلاب الذي نفّذه قيس سعيّد على المنظومة الديمقراطية الوليدة التي تتصدّرها حركة النهضة في تونس، فقد عاودت سردية الفشل والنهايات الظهور مجدّداً.
من زاوية استراتيجية، تظل الفكرة الإسلامية، بمعناها العام، الأكثر جاذبية وديناميكية اليوم
من المهم الانتباه هنا إلى وجود حقيقة صلبة، يجب التعايش معها سنوات طويلة، أن صعود الاسلاميين وتراجعهم في المشهد العام، أو فوزهم وهزيمتهم في الانتخابات، خصوصاً ضمن الأجواء السياسية الطبيعية، حدثٌ عاديٌّ لا يستحق التهويل أو التهوين، مثلما نتحدّث هنا عن فوز حزبي المحافظين والعمال في بريطانيا أو هزيمتهما، أو فوز الجمهوريين والديمقراطيين في أميركا وهزيمتهما. لا يوجد في عالم السياسة منتصر أو مهزوم دائمان، وفي النظام الديمقراطي، أو حتى نصف الديمقراطي، تتقلب الأمور بين التقدّم والتراجع، وهذا ما يضفي خصوصية أصلاً على النظام الديمقراطي المتحرّك مقارنةً بالأنظمة السلطوية. ولكن بما أن المشهد السياسي العربي مشحونٌ بقدر غير قليل من الصراعات السياسية والمشاحنات الأيديولوجية، فقد تمّ تصعيد ظاهرة الإسلاميين أو ما يسمّى الإسلام السياسي، إلى ما يشبه الظاهرة الميتافيزيقية العابرة للزمان والمكان. يثير فوزهم فزّاعات ومخاوف شديدة، وهزيمتهم تحرّك ضغائن وشماتة وأوهاماً كثيرة، خصوصاً في أجواء الكراهية التي تضخّها وسائل إعلام كثيرة. كذلك إن التعبيرات السلفية والعنيفة التي ترى نفسها بمثابة "صفوة ربانية" أسهمت هي الأخرى، بشكل أو بآخر، في تشكيل هذه القراءات الخيالية لظاهرة الإسلام السياسي.
طبعاً، خصوصيات حركات الإسلام السياسي، التاريخية والثقافية، لا تجعل هذه الحركات محصّنة من التأثر والتأثير المتبادل مع المحيط المحلي، وما يجري حولها إقليمياً ودولياً. يضع الناس ثقتهم في الإسلاميين، إذا أنجز هؤلاء شيئاً ملموساً على صعيد تطلعاتهم الاجتماعية والسياسية، ويسحبون منهم هذه الثقة إذا فشلوا في تحقيق وعودهم، أو إذا رأوا أنهم قد ابتعدوا، قليلاً أو كثيراً، عن إطارهم الأخلاقي العام، ولكن لا أحد يتجاهل أن الإسلاميين يشتغلون في سياق سياسي داخلي وإقليمي، يعمل على إفشالهم وتوريطهم بكل الأساليب والحيل.
إذا كان هناك من حسنة لتراجع الإسلاميين أو هزيمتهم، فهي تذكّرهم، مثلما تذكّر الجميع، بطابعهم الدنيوي التاريخي وأنه يسري عليهم ما يسري على غيرهم من قوانين الاجتماع السياسي، مثلما يمنحهم ذلك فرصةً للمراجعة والتطوير والتدارك.
لم تظهر قوى جدّية منافسة للإسلاميين من العائلات الفكرية الكبرى، هذا إذا استثنينا بعض أحزاب الإدارة وما أسماها بعضهم أحزاب المقاولات السياسية
في كل مرةٍ تبرز السردية الكبرى للنهايات والما بعديات، إلا وتسفهها معطيات الواقع، من خلال ظهور بدايات أخرى أو منعطفات جديدة ضمن الخط العريض للإسلام السياسي، فما إن تنكسر موجةٌ من الموجات، حتى تتلوها موجاتٌ لاحقة، وكأن التاريخ السياسي للمنطقة يعيد كتابة نفسه بصيغ متعدّدة، ولكن بلغةٍ واحدة، أو كأن شخوص الإسلام السياسي وعناوينه في هذه الرقعة من العالم مجرّد تعبير عن صوت التاريخ بلغة هيغل. ربما عاد هذا الأمر إلى وجود طلب مجتمعي، وحاجة تاريخية لهذه الظاهرة، أكثر من أي اعتباراتٍ أخرى، كذلك فإن له صلة بوضع الإسلام نفسه في الأزمنة الراهنة.
الواضح عندي أن الإسلام، كقوة روحية سياسية، سيظل بالغ التدفق في عصرنا الراهن، وحركة التحديث والعلمنة نفسها لن تكون في منأى عن ديناميات الإسلام الداخلية وأنماط استجابته المركّبة، رفضاً وقبولاً وتفاعلاً، على نحو ما نرى ذلك في تركيا وإيران وإندونيسيا ومصر وتونس وغيرها. لقد استفرغ الإسلام جزءاً من طاقته، في إطار الحركات الاستقلالية التي جمعت بين مطلبي الهوية والتحرّر من الاحتلال الأجنبي. ويبدو اليوم أن طاقاته الجديدة تسير نحو مواجهة سؤال النضوض العام الذي فرض نفسه منذ الإصلاحية الإسلامية في القرن التاسع عشر.
هذا لا يعني أن رحلة الإسلام السياسي ستكون من دون تعثراتٍ وتراجعات، بل قد تكون هذه الانكسارات شرطاً ضرورياً لنضج هذا التيار فكراً وممارسة، ودافعاً له لاكتساب ما يمكن تسميته الوعي التاريخي والحسّ الاستراتيجي، بما يؤهله لقيادة المستقبل في المنطقة.
فعلاً الإسلام السياسي في مقولاته التقليدية، وعلى النحو الذي تعبّر عنها المدرسة الإخوانية، لم يعد يسعف، ولا يستجيب لمقتضيات المرحلة وتحدّياتها. ومع ذلك، لا يمكن مجاوزته إلا بالوقوف على ميراثه الفكري والسياسي ونخل مكتسباته وعثراته للبناء عليها مستقبلاً. كثير من مقولات الإسلاميين، في الدولة والشريعة والسياسة والدين والفرد والعلاقات الدولية وغيرها، في أمسّ الحاجة إلى إعادة نظر وتطوير جديدين، لكن ذلك كله ينبني على خلفية المراكمة والتجاوز، وليس العودة إلى النقطة الصفر.
يواجه الإسلاميون صعوباتٍ جدّيةً، نتيجة تغير المناخ السياسي العام في المنطقة منذ الانقلاب الذي حصل في مصر سنة 2013
قد يُثار سؤال هنا: إذا ما تمّت هذه المراجعات، فما الذي بقي أو سيبقى من الإسلام السياسي؟ وجوابي، بكل بساطة، ستبقى الطاقة الروحية والمخزون التاريخي وبواعث الحركة السياسية التي أطلقها الشيخ جمال الدين الأفغاني، منذ صيحته المزلزلة في العالم الإسلامي أواسط القرن التاسع عشر. والأرجح أن الظاهرة السياسية الإسلامية، بكل تعبيراتها وخطاباتها، وبكل تعرّجاتها ومنعطفاتها، ستظل معنا عقوداً. وليس ثمّة ما يشير جدّياً إلى أن هذه الظاهرة تسير إلى زوال تحت ضغط القمع والاستهداف السياسي والإعلامي. ولذلك، السؤال الأهم، بدل الاستغراق في مرويات النهاية والمابعديات، تركيز الجهد وتوجيه النظر إلى تطوير هذا التيار وتصويب وجهته، بما يخدم مسار التطوّر والتوازن المفقودين في العالم الإسلامي.
الواضح أنّ تراجع الإسلاميين في بعض المواقع أو القطاعات يتلوه، في الغالب الأعم، صعودٌ وتداركٌ في مواقع وقطاعات أخرى. وحينما يتعثر فصيل سياسي إسلامي يظهر فصيل آخر على يمينه أو يساره. إزاحة الجبهة الإسلامية في الجزائر في تسعينيات القرن الماضي تلاها صعود حركة مجتمع السلم، بقيادة المرحوم محفوظ نحناح، الأكثر هدوءاً وعقلانية، وربما تراجع حزب العدالة والتنمية في المغرب اليوم سيترك فراغا تملأه قوى إسلامية جذرية على يمينها، مثل حركة العدل والإحسان التي اختارت أن تكون بعيدة عن حسابات المخزن. وهذه محنة العالم العربي الذي لا يكفّ عن صنع مناخ ثقافي وسياسي سيّئ لا يمكن إلا أن ينتج قوى سياسية مشوّهة وقلقة.
بقي أن يُقال هنا إنه لا يمكن أن نحكم على الإسلاميين أنهم يتقدّمون أو يتراجعون إلا في مناخ سياسي سليم وحياة ديمقراطية جدّية تتوافر على الحد الأدنى من الضمانات والمنافسة الجدّية، أما في ظل سياسات التسييج والتكييف وتحريك خطوط المنظومة المهيمنة، فلا يمكن أن نصدر حكماً جازماً.
لا يمكن أن نحكم على الإسلاميين أنهم يتقدّمون أو يتراجعون إلا في مناخ سياسي سليم وحياة ديمقراطية جدّية
لا أحد يشكّ في أن الحجم الانتخابي لحزب العدالة والتنمية المغربي بأقدار كبيرة، نتيجة خيارات وأخطاء قاتلة، ومن ذلك التورّط في خيار التطبيع مع إسرائيل بما لم يسبق له مثيل في الصف الإسلامي، ولكن إسلاميي المغرب أيضاً هم ضحايا سياسة المخزن الذي ظل يُمسك خيوط اللعبة، ويمارس آلية القبض والبسط في التعاطي مع القوى السياسية وفق حساباته الخاصة.
فعلاً، يواجه الإسلاميون صعوباتٍ جدّيةً، نتيجة تغير المناخ السياسي العام في المنطقة منذ الانقلاب الذي حصل في مصر سنة 2013. ولكن لم تظهر قوى جدّية منافسة لهم من العائلات الفكرية الكبرى، هذا إذا استثنينا بعض أحزاب الإدارة وما أسماها بعضهم أحزاب المقاولات السياسية التي صنعت على عجل من داخل منظومات الحكم، والتي لا تمتلك مقوّمات الحياة والاستمرار، أو الموجة الشعبوية العابرة. ومن زاوية استراتيجية، تظل الفكرة الإسلامية، بمعناها العام، الأكثر جاذبية وديناميكية اليوم، حتى بين الأقليات الإسلامية في الغرب، وفي أوساط القطاعات الحديثة من طلبة وخرّيجين ومهندسين ومثقفين وغيرهم، وحتى حينما حاول المحور المصري الإماراتي كسر هذه الموجة، بقوة المال والإعلام والتضليل، لم يحقق شيئاً يُذكر على الأرض.
القوميون العرب أنهكهم الإرثان، الناصري والبعثي، وحتى تعبيراتهم الإصلاحية أو الليبرالية ظلت أقرب إلى تطلعات نخبوية لبعض المثقفين منها للتيار الشعبي الوازن. تلقّت القوى اليسارية ضربة موجعة بعد سقوط المنظومة الشيوعية، ثم بتحالفاتها الوظيفية التي نسجها كثيرون منها مع الأنظمة الاستبدادية، تحت عنوان مواجهة الخطر الأصولي.
.. لا يعني ما جاء أعلاه أن الإسلام السياسي ليس في حاجة إلى كثيرٍ من المراجعات على صعيد مقولاته وأفكاره وخياراته، بل على العكس هناك كثيرٌ مما يستوجب المراجعة والتعديل والتطوير، باتجاه ما أسميته سابقاً باتجاه إسلام سياسي جديد.