المشهد الانتخابي في تونس ونهاية حقبة سعيّد
تقف تونس على أعتاب انتخابات رئاسية في السادس من الشهر المقبل (أكتوبر/ تشرين الأول)، ويعمل الرئيسُ قيس سعيّد لتحويلها مُجرَّد مبايعةٍ تتيح له الاستمرار في قصر قرطاج خمس سنوات مُقبلة، كيفما كان شكلها ونِسَبُ المشاركة فيها، إذ ما يعنيه بدرجة أولى تثبيت موقعه في الحكم، ولو بنِسَب مشاركةٍ ضئيلةٍ في إطار ما سمّاها "معركة التحرير". ورغم أنّ قوى المعارضة قد نفضت أيديها تماماً من إمكانية تحقّق الحدّ الأدنى من شروط انتخابات حرّة ونزيهة، إلّا أنّها، ولاعتبارات تكتيكية، ترى فيها فرصةً مناسبةً لمحاصرة سعيّد، ولمزيد من انهاكه، سواء بالمشاركة أو بالمقاطعة النشيطة، لأنّ الرجل مصمّمٌ على البقاء في كرسي الحكم بأيّ ثمن، وعلى فرض سياسة الأمر الواقع مع التمنّع عن أيّ شكل من الحوار والتوافق مع أيّ كان.
الواضح أنّ العملية الانتخابية أُفرغت من محتواها، بل زُيّفت سلفاً وبمقادير كبيرة قبل أن تبدأ أصلاً، سواء من ناحية المناخات السياسية العامّة التي تجري فيها، أو من خلال عمليات التطويق الإعلامي والتشريعي، التي أحاط بها نظامُ سعيّد العمليةَ الانتخابيةَ برمّتها قبل انطلاقها. أمّا النزر القليل المتبقّي منها (التنافس المحدود) فهو موضع صراع بين إرادة سعيّد في تثبيت أركان حكمه، عبر تجديد شرعيته الانتخابية ولو شكلياً، وسائر القوى السياسية والاجتماعية الرافضة انقلابه وخياراته الشعبوية، التي تتوزّع بين خيارَي المشاركة والمقاطعة.
طوّق قيس سعيّد العملية الانتخابية بترسانةٍ من القيود السياسية والقانونية والقضائية، بما يضمن مروره بقوّة، فقد بدأ في التمهيد بحلّ الهيئة المستقلّة للانتخابات، فنصّب عليها رئيساً جديداً، واختار أعضاءَ آخرين، ما أفقدها استقلاليتها التي كانت قد تمتّعت بها بعد الثورة، وحوّلها مُجرَّد ذراع تنفيذي لتمرير سياساته، وتصريف تعليماته، وفق فلسفته للحكم التي تقوم على الوظائف التابعة بدل السلطات المستقلّة، وأردف ذلك بسلسلة اعتقالات طاولت شخصياتٍ سياسيةً وازنةً منذ ما يزيد عن سنة ونصف السنة، وكان يستشعر أنّها شخصيات تمثّل منافساً جدّياً له، مثل عصام الشابي وغازي الشواشي وجوهو بن مبارك وخيام التركي وغيرهم، ثمّ عدّل القانون الانتخابي عبر الهيئة الانتخابية، من دون الرجوع إلى البرلمان أصلاً بخلفية تعسير التزكيات المطلوبة للترشّح إلى أبعد حدّ ممكن، ومن ذلك ترفيع عدد الدوائر الانتخابية من 27 إلى 161 دائرة. ومع سيطرته على مجلس النواب والمجالس الجهوية والمحلّية بات ترشّح الشخصيات المُعارِضة لمساره بالغ الصعوبة، ثمّ توّج ذلك بموجة ثانية من المحاكمات لمرشّحين آخرين، ومن بقي منهم خارج السجن استبعد بطرقٍ ملتويةٍ، بشكل أو بآخر.
عدم إعلان المعارضة التونسية مقاطعةَ الانتخابات بصورة آلية، على نحو ما كان يتوقّع سعيّد ويرغب، قد زاد في متاعبه أكثر
وهكذا، استقرّ المشهد الانتخابي، في نهاية المطاف، عند منافسين اثنين لقيس سعيّد لا غير، وكان ذلك بعد عملية انتقاءٍ وتصفيةٍ كبيرةٍ عبر الثقوب الضيّقة لغربال الانقلاب، تراوحت بين السياسي والأمني، وبين القضائي والتشريعي.
تجري هذه الانتخابات في مناخات سياسية مشحونة، وتتّسم بالتضييق على الأحزاب والهيئات، وعودة الأجواء القمعية لحقبة الرئيس زين العابدين بن علي، التي ظنّ التونسيون أنّهم غادروها بعد الثورة إلى غير رجعة، فنحن هنا إزاء نظام فردي شعبوي اجتمعت فيه السلطات بين يدي رجل واحد، فحوّلها مُجرَّد وظائفَ تابعةٍ، وفق دستوره الذي كتبه بنفسه.
على أنّ ما عقّد المشهد العام على سعيّد، وحوّل الانتخابات مأزقاً، خلافاً لما خُطّط له، مجموعةٌ من المعطيات الأساسية، أولها، تعدّد الترشيحات وانخراط الكتل السياسية بصورة تلقائية في تزكية المُرشّحين من مختلف جهات البلاد، الأمر الذي أربك سعيّد، الذي كان يراهن على التخلّص من منافسيه بحاجز التزكيات السميك والشاهق، بعدما استخدم القضاءَ والسجون. وثاني تلك المعطيات عودة الحراك الشعبي إلى الشارع بقوّة بعدما أدركت القوى السياسية والاجتماعية، على وقع السجون والملاحقات، ألّا سبيل أمامها إلّا تجاوز حالة الاستقطاب السياسي والأيديولوجي، التي شقّت الساحة التونسية سنوات طويلة، والاتحاد حول الحدّ الأدنى الديمقراطي، وإن لم يكن من اليسير الاتحاد على صعيد الهياكل والجبهات السياسية، فلا أقلّ من الاتحاد في الشارع والميادين، خاصّةً بعدما اتّضح للجميع أنّ الإجراءات القمعية لم تعد تفرّق ببن إسلاميين وغير إسلاميين، وأنّ الحرّية كلّ لا يتجزأ، فإمّا أن تكون للجميع أو لا تكون أصلاً، والأرجح أن تستمرّ هذه الأعمال الاحتجاجية، وتتوسّع أكثر قبل الانتخابات وبعدها، في ظلّ شيوع أجواء الاحتقان واليأس الشعبيَّين، خاصّةً بعدما أوصد سعيّد إمكانية التغيير عبر صناديق الاقتراع، وأحكم الطوق حولها.
إنّنا على مشارف نهاية حقبة قيس سعيّد الشعبوية، التي التهمت الجميع، وفي طريقها نحو التهام نفسها
كما أنّ عدم إعلان المعارضة مقاطعةَ الانتخابات بصورة آلية، على نحو ما كان يتوقّع سعيّد ويرغب، قد زاد في متاعبه أكثر، إذ اكتفت المُعارَضة بالمطالبة بتوفير شروط انتخابات حرّة ونزيهة، ودانت القيود السياسية والقانونية والمناخات العامّة في البلاد، من دون أن تحسم موقفها باتجاه المقاطعة أو المشاركة، فاضطر سعيّد إلى استخدام أشكال التحايل السياسي والقانوني كلّها لقطع الطريق على منافسيه، خاصّة مع تراجع حظوظه الانتخابية على نحو ما تُبيِّن أغلب استطلاعات الرأي، وبما يجعل ذهابه إلى هذه الانتخابات، رغم ما أحاطها به من حواجز وسواتر، عمليةَ مجازفةٍ.
ثمّ جاء قرار المحكمة الإدارية (المحكمة العُليا) بعدم شرعية استبعاد ثلاثة مرشّحين ليزيد من محاصرة سعيد وإرباكه، ومن بعده الحكم التفسيري، وكان أكثر وضوحاً وأشدّ إحراجاً، إذ انطوى على تهديد بنقض العملية الانتخابية جملةً، وعدم الاعتراف بنتائجها، ما يجعل الانتخابات ضرباً من المغامرة السياسية والقانونية. وردّاً على ذلك، يتّجه قيس سعيّد، وفي سابقة خطيرة وغير مسبوقة في أيّ بلد، إلى تغيير القانون الانتخابي قبل ثلاثة أسابيع من إجراء الانتخابات، وهي حالة أشبه ما تكون بمن يُغيّر قواعد المقابلة الرياضية بصورة فوقية، وقبل ساعات من انطلاقها، بمصادرة الدور التحكيمي للمحكمة الإدارية في النزاع الانتخابي، وتحويله إلى القضاء العدلي، الذي أخضعه بالكامل بالإقالات والترهيب والوعد والوعيد بعد حلّ المجلس الأعلى للقضاء المُنتخَب، وهي خطوة استباقية لضمان مرور قيس سعيّد، ولفرض نفسه رئيساً لدورة مقبلة، ولو كان ذلك بالقوّة والتزييف وبعيداً عن كلّ رقابة. ولا يُستبعَد أن يجد سعيّد صعوبةً في تمرير التعديلات التي يطلبها من داخل البرلمان أصلاً، بحكم حالة الرفض المتزايدة بين أعضائه بالتزامن مع الرفض الشعبي المتنامي.
الانتخابات الرئاسية في ونس حلقة في مسار رفض شعبي لانقلاب قيس سعيّد وخروجه على الدستور والمؤسّسات
المفاجأة الأكبر لسعيّد كانت صعود نجم المرشّح الأربعيني العيّاشي زمّال، الذي لم يقرأ له حساباً، إذ توقّع أن يكون مُجرَّد مُرشَّح شكلي لتمرير فوز محقّق سلفاً، إلّا أنّ اعتقاله المفاجئ في الهزيع الأخير من الليل، واقتياده في اليوم الواحد من مركز تحقيق إلى آخر بغرض التنكيل به، أكسبه شرعيةً نضاليةً، وحوّله رمزاً لـ"المقاومة الانتخابية"، على منوال الشخصيات المُعارِضة التي اعتقلها سعيّد قبل ذلك، كما أنّ التفاف جمهورٍ انتخابيٍّ غاضبٍ، وكتلٍ سياسيةٍ مُعارِضةٍ، حول زمّال جعل منه مرشَّحاً جدّياً ومنافساً وازناً لسعيّد، المُنهَك بالفشل والوعود الفارغة. أراد سعيّد حرمان زمّال من إدارة حملته الانتخابية، فتحولت حملة الأخير حالةً شعبيةً تلقائيةً في مختلف جهات البلاد ومحلياتها، وفي مواقع التواصل الاجتماعي، ولا يُستبعَد أن تميل كتلٌ سياسية وازنةٌ إلى دعمه قبل أيّام قليلة من الموعد الانتخابي، بما يضع سعيّد أمام ثلاثة خيارات أحلاها مرُّ؛ إمّا إعلان الفوز من الدور الأول، وهو الخيار الأرجح حالياً، خصوصاً بعد توالي تصريحات شقيقه، والمحيطين به، بأنّهم لا يقبلون وجود دور ثانٍ أصلاً لمرشَّحهم الاستثنائي، وهذا لا يمكن أن يتمّ من دون التورّط في عملية تزييف مفضوحة، ترفع عنه غطاء الشرعية والمشروعية التي يدّعيها، خصوصاً مع قرار المحكمة الإدارية إبطال أسس العملية الانتخابية قبل ذلك؛ أو أن يذهب إلى الدور الثاني، ومن ثمّ تتجنّد جميع القوى المنافسة وسائر المتضرّرين من حكمه ضدّه، وهذا يجعل فوزَه شبه مستحيلٍ؛ أو التسليم بالهزيمة والاعتراف بنتائج الانتخابات لصالح منافسه زمّال، بضغط من الرأي العام والأجهزة الصلبة للدولة والخارج، الأمر الذي يفتح البلاد على مرحلة جديدة تعيد البلاد إلى مسارها الديمقراطي المغدور به وإدخال الإصلاحات المطلوبة. ... وفي الخلاصة، ليس من المنتظر أن يُسلّم قيس سعيّد سلطةً قد اغتصبها بالقوة الغاصبة عبر انتخابات مشوهة في أصلها، ولكنّه يجد نفسه مُحاصَراً بحراك شعبي، وبغضب مجتمعي، وبتصميم عامّ على فرض التغيير.
ما جاء أعلاه يجعل من هذه الانتخابات أقرب ما تكون إلى "المقاومة" الانتخابية منها إلى المشاركة الانتخابية، وهذا يعني أنّها ستكون حلقةً في مسار رفض شعبي لانقلاب قيس سعيّد وخروجه على الدستور والمؤسّسات، فإمّا أن يُفسِح المجال أمام الشعب للتعبير عن إرادته (أو ما تبقى منها) عبر صناديق الاقتراع، أو أن يستمرّ الصراع معه بقوة الشعب إلى أنّ يندحر مساره. والمُؤكّد هنا أنّ كلّ الخيارات باتت صعبةً على حاكم قرطاج، ولا سيّما مع استعدائه الجميع وفتحه جبهات صراع على الجميع، والمؤشّرات السياسية كلّها تقول إنّ تونس تتهيأ لمرحلة تغيير جديدة، وإنّنا على مشارف نهاية حقبة قيس سعيّد الشعبوية، التي التهمت الجميع، وفي طريقها نحو التهام نفسها.