هل يعود محور الممانعة بأشكال جديدة؟
منذ تشكّل ما سمّي محور الاعتدال العربي، ومقابله الإقليمي الموصوف بمحور الممانعة، بالتزامن مع اتفاقية أوسلو، ثم بصورة أوضح بعد الاحتلال الأميركي للعراق سنة 2003، منذ ذلك الوقت، جرت مياه كثيرة في النهرين العربي والإقليمي الأوسع، ذلك أن ثورات الربيع العربي لم تغيّر التوازنات الداخلية في الأقطار العربية التي امتدت إليها فحسب، بل غيّرت أكثر من ذلك خطوط التحالف والصراع في المنطقة. فمع تهاوي نظام حسني مبارك في مصر على وقع ثورة شباب 25 يناير (2011)، فقد محور الاعتدال العربي أحد أهم أضلعه، وقد أصابه ذلك بحالة من الفزع والارتباك الشديدين، بالنظر إلى ثقل مصر وتأثيرها في المحيط العربي الأوسع. وردّاً على ذلك، سعى هذا المحور إلى المبادرة بتوسيع حدوده، ليضم دولا عربية أخرى، وأصبح تبعا لذلك أشبه ما يكون برابطة دكتاتوريات عربية تجمع الملكيات العربية الإطلاقية، قبل أن يستعيد مصر لاحقا بعد إسقاط الرئيس محمد مرسي. وما كان يوحد هذا المحور، على اختلاف توجهات أعضائه، هاجس الخوف من انتقال عدوى الثورات العربية، ومعها مطالب الانتخابات الحرّة والرقابة على الحكّام. ولذلك كان في مقدّمة أهدافه العمل على كسر موجة التغيير وضرب القوى الفاعلة فيها، عبر التنسيق الأمني والاستخباراتي واستخدام المال والإعلام وحتى السلاح. وقد انتقل هذا المحور بعد نجاحه في تقويض موجة الثورات العربية باتجاه التطبيع ونسج علاقات استراتيجية متينة مع دولة الاحتلال، في إطار ما بات يعرف بالاتفاقيات الإبراهيمية التي بدأها ترامب ثم بنى عليها خلفه بايدن.
والمفارقة العجيبة أن هذا المحور الذي ناهض ثورات الشعوب العربية، واعتبرها مؤامرة أميركية، هو نفسه الذي انخرط بقوة في تنفيذ الأجندة الأميركية الإسرائيلية بشكل غير مسبوق ومستفز للشارع العربي، في سياق تحالف سياسي وشخصي وثيقين مع الرئيس ترامب، وهو نفسُه الذي أدار ظهره بصورة كاملة للقضية الفلسطينية، معتبراً أنها من مخلفات الماضي، وعائق أمام مشاريع المستقبل "الأوسطية"، وقد وقف، في ما بعد، موقف المتفرّج إزاء المجازر التي تُرتكب بحق الفلسطينيين واللبنانيين، مكتفياً، في أحسن الحالات، بالدعوة إلى وقف إطلاق النار من دون أن يفعل شيئاً. وبموازاة ذلك، أطلق ألسنة مثقّفيه وإعلامييه وأقلامهم لشيطنة المقاومة وتجريح رموزها.
ثورات الربيع العربي، التي امتدّت إلى سورية الأسد، وهي حلقة أساسية في محور الممانعة، غيرت المعطيات السياسية وخريطة التحالفات والصراعات
لم يكتف هذا المحور بنسج تحالفات تكتيكية عابرة مع دولة الاحتلال، بل أخذ الأمر طابعاً استراتيجياً واسع النطاق، ومن ذلك الاتجاه إلى صياغة عقيدة سياسية وأمنية "جديدة"، مفادها أن مهدّدات الأمن القومي ما عادت ترتبط بإسرائيل ومشروعها التوسّعي في المنطقة بقدر ما باتت ترتبط بثنائي الشر: إيران أولا ثم الإسلام السياسي أو الإخوان المسلمون ثانياً، وما يقصد بالإسلام السياسي على وجه التحديد مطالب التغيير والإصلاح السياسيين، ودليل ذلك ما رأيناه من ضغوط مورست وما زالت تمارس على بعض الدول العربية، بما في ذلك الخليجية، التي تتوفّر على بعض مساحات الحرية السياسية، لتقييد أدوار المجالس النيابية، بل المطالبة بإلغاء مبدأ الانتخاب جملة وتفصيلا، خشية ما ينجرّ عن ذلك من مطالب سياسية أعلى سقفاً في ما بعد. وتبعا لذلك، لم تعد إسرائيل تُصنّف في دائرة الأعداء أو حتى المنافسين، بل غدت حليفاً موثوقاً في مواجهة قوى الشر الجديدة. ولم يجد هذا المحور حرجاً في تمديد عقيدته السياسية والأمنية نحو جامعة الدول العربية بخلفية مراجعة أسس الإجماع العربي الذي تشكّل منذ ولادة الجامعة سنة 1945، والقائم على اعتبار المشروع التوسّعي الصهيوني مصدر الخطر الأعظم الذي يتهدّد العالم العربي منفرداً ومجتمعاً.
ومع إعادة انتزاع مصر من "براثن الربيع العربي"، فقد تقوّت شوكة هذا المعسكر أكثر وارتفع سقف مطالبه وطموحاته أعلى، من الدفاع عن الأنظمة، إلى سحق الخصوم ومحاصرتهم، فانتقل من طور الدفاع إلى الهجوم الاستباقي، محكوماً بغريزة الحياة والموت، ومستخدماً قوة المال والإعلام لتلويث الأجواء العامة وإعادة رسم البيئة الإقليمية، بل وقطع الطريق أمام ممكنات التغيير في المستقبلين القريب والبعيد. وما كان لهذا المعسكر العربي أن يتمدّد وينتعش في السنوات الأخيرة لولا الإسناد الخفي والمعلن الذي لقيه وما زال يلقاه من إسرائيل التي عملت على استثمار بارانويا الخوف هذه التي استبدّت بالنظام الرسمي العربي، وتحويلها إلى مكاسب استراتيجية لصالحها بعقد تحالفات "جديدة" مناقضة قوانين التاريخ ومعطيات الجغرافيا. فقد استشعرت دولة الاحتلال منذ "طوفان الأقصى" هشاشة وضعها الأمني والعسكري، رغم ضخامة قدراتها التسليحية، ولكنها وجدت في حربي غزّة ولبنان فرصة استراتيجية في ظل هشاشة الوضع العربي من حولها، لإعادة تشكيل وجه المنطقة وفق ما يُعرف بالشرق الأوسط الجديد، الذي لطالما بشّر به قادة ومفكّرون إسرائيليون، وهو حلمٌ يتماهى مع الرؤية الأميركية للمنطقة.
ما هو مطلوب إعادة وصل ما انهدّ من علاقات عربية وإسلامية باتجاه تكوين التقاء جبهوي عريض، يضم الدول الرافضة للتطبيع والقوى الشعبية الفاعلة
أما محور الممانعة الذي تشكل في مواجهة مشروع الشرق أوسطية الذي بشّر به شيمون بيريز بعد اتفاقية أوسلو سنة 1993، فقد تحوّل، بعامل الوقت، إلى محور طائفي، يقتصر على المجموعات الشيعية المرتبطة بإيران، خلافاً للروح التي قام عليها، في البداية، حيث كان يضم خليطاً مركّباً من القوى الرسمية والشعبية وقتها، وفي مقدّمتها إيران وسورية ولبنان وحركات المقاومة في فلسطين ولبنان والتيارات الإسلامية والقومية بشقيها السنّي والشيعي، ولا سيما أن ثورات الربيع العربي، التي امتدّت إلى حلقة رئيسية من حلقات هذا المحور، أعني بذلك سورية الأسد، قد غيرت المعطيات السياسية وخريطة التحالفات والصراعات، وقد كان ثمن ذلك ثقيلاً ومكلفاً على المنطقة والتوازنات العامة، وسائر قوى التغيير في المنطقة. وكان من نتائجه المباشرة تمدّد محور التطبيع العربي تحت المظلة الأميركية الإسرائيلية وهزّ الثوابت التي استقرّت عليها المنطقة عقوداً طويلة. وبذلك أصبحت الرقعة العربية رهينة تحالف عربي رجعي مسنوداً بإسرائيل والقوى الإمبريالية الكبرى، ومصمماً على إجهاض أشواق الشعوب العربية في التحرّر من الهيمنة الأجنبية والاستبداد الداخلي، وجرّها جرّاً نحو المظلة الإسرائيلية تارّة باسم مقاومة إيران وأخرى باسم مواجهة الاسلام السياسي أو التطرّف وما شابه دلك، وما الاتفاقات الإبراهيمية وما تبعها من تنسيق عسكري ولوجستي إلا غيض من فيض هذا المشروع الكبير الذي يراد فرضه على المنطقة.
بيد أن الاجتياح الإسرائيلي لغزّة وما رافقه من قتل وتدمير هائلين بما يصل إلى مستوى حرب الإبادة الجماعية ، ثم شنّ العدوان على لبنان ومجاهرة نتنياهو بنياته في إعادة تشكيل شرق أوسط جديد، قد نبه الجميع إلى أن المسألة أكبر من الساحتين الفلسطينية واللبنانية نفسيهما، كما أن اصطفاف دول عربية وازنة ضمن هذا المشروع وانتظارها أن يستكمل نتنياهو مهمّته في غزّة ولبنان نيابة عنها لاستئناف ما بدأته من خطواتٍ تطبيعية في إطار الاتفاقيات الإبراهيمية، قد أشعر الجميع بخطورة الوضع وما يتطلبه من إعادة تفكير خارج المربع التقليدي، وكان ذلك بمثابة صدمة وعي محفّز على تصويب الوجهة العامة، ومن ذلك استخلاص الدروس والعبر من تجارب الماضي القريب، ثم تحديد أقوم السبل لمواجهة تحديات المرحلة المقبلة، وما يتطلبه ذلك من إعادة ترتيب الصفوف وتوحيد المواقف على ضوء تشخيص المخاطر المشتركة والأولويات الموحدة.
نحن الآن إزاء مشروع كبير يراد فرضه علينا جميعاً حكاماً وشعوباً وقوى شعبية، بسنتنا وشيعتنا وإسلاميينا وعلمانيينا ومسلمينا ومسيحيينا
كان الملف السوري بمثابة الديناميت المفجّر لنسيج التحالفات السابقة، مثلما كان مفعوله بالغ السلبية في إثارة النزاعات الطائفية وإيقاظ الهويات الانقسامية في المنطقة. وقد كان يسع إيران التي تمثل ضلعاً رئيساً في محور الممانعة إدارة هذا الملفّ بصورة مختلفة، بما يدرأ شر الفتنة الطائفية في المشرق العربي، بدل الاكتفاء بالحسابات الجيواستراتيحية الباردة. ولكن الواضح أن المسألة السورية ستظل خلافية مدة طويلة، وخاصة أن الجراح ما زالت قائمة وندوب الصراع ما زالت حية، اللهم إلا أن يتم بلوغ مسلك حواري وتصالحي على أرضية إصلاحية شاملة وفق أجندة إقليمية عربية إسلامية، بعيداً عن حسابات القوى الدولية التي تريدها ساحة استنزاف للجميع، ولذلك يتوجب وضع هذا الملف جانباً والبحث عن مساحات التقاء تكتيكي واستراتيجي في مواقع الصراع الأخرى المفتوحة والملتهبة، فلعلّ الزمن وحده كفيل بمعالجة هذا الملف وتجاوز مخلفات الماضي.
نحن الآن إزاء مشروع كبير يراد فرضه علينا جميعاً حكاماً وشعوباً وقوى شعبية، بسنتنا وشيعتنا وإسلاميينا وعلمانيينا ومسلمينا ومسيحيينا، وليس أمامنا إلا مواجهة هذا التحدّي الاستراتيجي برؤية عميقة ومشروع مضاد، يستفيد من أخطاء الماضي ويبني على المكاسب والمنجزات السابقة.
ما هو مطلوب إعادة وصل ما انهدّ من علاقات عربية وإسلامية باتجاه تكوين التقاء جبهوي عريض، يضم الدول الرافضة للتطبيع والقوى الشعبية الفاعلة، بحيث تتحوّل وحدة الساحات من مراكز شيعية إلى ساحات عربية وإسلامية عريضة، ولا سيما أن الصراع لا يأخذ طابعاً عسكرياً خالصاً، ولا يتوقف الأمر على المقاومة في مواقع الاحتكاك المباشر، كما هو الأمر في فلسطين ولبنان، بل يجب أن يمتد ذلك إلى مساحات السياسة والثقافة والفكر والاقتصاد وغيره في إطار مشروع ممانعة عربي إسلامي، بحيث يقوم كل طرف بواجبه ضمن ساحته السياسية المحلية. فلنتفق على هذه الأرضية العامة، وليعذر بعضنا بعضاً في ما نختلف فيه وفق تحدّيات الحاضر والمستقبل.