مفاجآت قطر واستثناؤها العظيم
المفاجآت العظيمة تصنعها شعوبٌ عظيمة، وقد أبت قطر إلا أن تصنع مفاجآتها الكبرى طوال شهر من المتعة والإثارة والدهشة والدروس الإنسانية والثقافية والحضارية لتصبح قلب العالم، قبل أن تضع بصمتها الأخيرة على نسخة 2022 من بطولة كأس العالم لكرة القدم على أرضها.
كانت البصمة، هذه المرّة، استثنائيةً جدا على بساطتها البادية، ورمزية جدا على تعقيدات الوضع الذي أنتجها بهذه الصورة المحمّلة بكل تفاصيل العلاقة الشائكة غالبا ما بين الشرق والغرب، أو ما بين العرب والآخرين.
عندما وضع أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد، البشت العربي التقليدي على كتفي اللاعب الأرجنتيني الأشهر ميسّي قبل تسليمه كأس العالم، كان يزيح غبار عقود، وربما مئات من السنين، تراكم في علاقتنا، نحن العرب، بالعالم كله. كان يقدّمنا إلى هذا العالم بإصرار الحالمين وببساطة الواثقين من أنفسهم ومن عمق حضارتهم وبهاء تاريخهم. لم تكن حركةً عفوية لجذب انتباه العدسات كما ظنّ بعضهم، ولم تكن تفصيلة صغيرة في حكاية الحلم القطري الكبير، إنما كانت خلاصة القول كله، والمعنى الأكثر دقة في التعبير عن الذات العربية، والتي أكّدها الشيخ تميم في حفل افتتاح البطولة، وهو يرحّب "بكل العالم في بلاد العرب".
نحن هنا إذن في بلاد العرب، وهذه البطولة التي نلنا شرف تنظيمها واستضافة العالم في سياقها في أراضينا شهادة على مكان هذه البلاد الممتدّة من البحر إلى البحر في خريطة العالم. وعندما ننجح في الاستضافة وفي التنظيم وفي الترتيب، وفي إبهار الآخرين بما لم يتوقعوه ولم ينتظروه، وبما انتظروا العكس منهم تماما، نتيجة نمطيةٍ اجتهد الغرب في وصم العرب بها، فإننا نقدّم الصورة الحقيقية المختبئة تحت رمال متحرّكة من الأوهام المصنوعة.
لقد نجح العرب، ممثلين بدولة قطر وقيادتها وشعبها، بإعادة تعريف الهوية العربية، والإسلامية، كما ينبغي أن يكون التعريف، في سياق بطولة رياضية، غالبا ما تكون فرصة عالمية للدعاية والدعاية المضادّة، فمنذ نجحت قطر بنيل حق تنظيمها، رغم كل التحدّيات التي واجهتها بعيدا عن الرياضة ومعطياتها، أصبحت تلك البطولة المنتظرة فرصةً للنيل من قطر ومن العرب، بتوجيه الرأي العام العالمي ضدهم، وبأنهم غير قادرين على إعطاء هذا الاستحقاق الحضاري الكبير حقه، لأنهم غير مؤهلين لشيء سوى الإرهاب الذي ربطوه بالفكرة الإسلامية عموما، لكن قطر لم تنجح بتبديد ذلك كله وحسب، بل تعدّت معنى النجاح الذاتي نحو فضح لأفكار الآخر المزيّفة.
كان التحدّي كبيرا، وهو ما جعل هذه النسخة من بطولة كأس العالم، والتي سعدتُ بحضور جانب منها في الملاعب وخارجها والحمد لله، محمّلةً بحمولةٍ غير تقليدية من الأفكار النمطية ضد كل ما هو قطري وعربي وإسلامي. وكانت المفاجأة أن قطر التي قبلت بالتحدّي، بل وساهمت بتعزيزه عبر إعلامها الذكي، قلبته لصالحها ولصالح الأمة في إصرارها المبدئي على توكيد الهوية العربية الإسلامية، عبر تفاصيل بدت عفوية وصغيرة، قبل أن يكتشف الجميع أنها كانت نتيجة تصميم دقيق وطويل المدى لخطة الاستضافة على مدى 12 عاما سبقت خطاب أمير قطر الذي افتتح به البطولة، وتمنّى فيه أن "يضع الناس ما يفرّقهم جانبا، لكي يحتفوا بتنوّعهم وما يجمعهم في الوقت ذاته".
نعم ... نجحت قطر أيما نجاح، ليس بتحسين صورة العرب بأعين الغرب، كما يحلو لكثيرين أن يقولوها بحسن نيّة، بل بإبراز الصورة الحقيقية للعرب في أعين العالم كله، وخصوصا بعد حملات التشويه الضخمة التي عانينا منها، عربا أولا ثم مسلمين، وخصوصا بعد أحداث "11 سبتمبر"، إذ حمّلونا وزر كل شرٍّ يحدُث في العالم، وأرجعوه الى مرجعيّتنا الدينية والثقافية، فرسموا صورةً مشوّهةً لنا وسوّقوها عالميا لصالح أفكارهم، حتى وإن تصادمت تلك الأفكار مع أفكار العالم كله، ولصالح "ثقافتهم"، حتى وإن تناقضت تلك الثقافة مع ثقافات الشعوب كلها، ولصالح معاييرهم الأخلاقية، حتى وإن كانت تلك المعايير لخدمة مصالحهم الآنية وحسب. ولذلك، عندما حوّلت قطر بطولة كأس العالم إلى تظاهرة ثقافية انتصرت فيها لقيم الإنسان الأصيلة وموروثنا الثقافي، فإنها أعلنت فوزها بالرهان الصعب، رغم كل التحدّيات، وبامتياز شهد عليه كل من شهده بعين العدل.
يحتاج الغرب وقتا طويلا قبل أن يفيق من مفاجأة كأس العالم في قطر، ليعترف بأن العالم ليس له وحده، وأنه لم يعد سيد الكرة الأرضية، بعد أن مارس الدور بعنجهية، وأن البشت العربي الأنيق الذي طغت رمزيته على كل إثارة المباراة الختامية الجميلة بين الأرجنتين وفرنسا أصبح العنوان الأول لهذه البطولة، وأداة فضح الغرب الذي لم يطق أن تطبق أفكار العدالة بين البشر على صعيد المبادئ العامة على هذا النحو الأصيل، فرفض مشهد البشت لأسبابٍ واهية ومضحكة.
شكرا قطر.. ليس على تنظيم هذه البطولة الاستثنائية وحسب، ولكن أيضا على الفضح العظيم لأفكارهم المزيفة.. شكرا لأنك، وأنت الدولة الصغيرة حجما، أثبتّ أن أحجام الأوطان لا تُقاس بالكيلومترات، بل بعظم المبادئ وقدرتها على الإنجازات.