مصر والعاصفة الليبية
عندما ضربت العاصفة دانيال في 11 سبتمبر/ أيلول الجاري شواطئ ليبيا، الدولة الهشّة المنقسمة على ذاتها، أصبحت مصر، بحكم الجوار الجغرافي وبحكم الهجرة الكثيفة للعمالة، طرفاً مفترضاً له القيام بدور ما تجاه الكارثة التي حلّت بمدن الشرق الليبي، ولا سيما منطقة درنة ومدن الجبل الأخضر، التي فقدت آلافاً من أبنائها ما بين قتيلٍ ومفقود، وفقدت أكثر من ربع مبانيها التي جرفتها مياه السيول، وتحوّلت إلى منطقةٍ منكوبةٍ، كما أعلنت الأطراف كافة في الشرق وفي الغرب، وكما يتّضح من كل التقارير الدولية عن الأزمة، التي يشير بعضها إلى قرابة عشرين ألفاً فقدوا منازلهم وأصبحوا بلا مأوى وأكثر من خمسة آلاف قتيل وآلاف المفقودين.
تذكر التقارير أن العاصفة ليست السبب الرئيسي للكارثة، بل انهيار سدّي درنة اللذين لم تجرِ صيانتهما وتدعيمهما ليحميا المدينة وسكّانها من السيول، وتحوّل تلك المياه إلى مخزون استراتيجي، كان يمكن الاستفادة منه بشكل كبير، بدلاً من أن يتحوّل إلى فاجعة تجرف الشجر والبشر والبنية التحتية، كما رأينا في القنوات التلفزيونية والصحف الدولية ومواقع التواصل، وتعيد البلاد إلى الوراء عقوداً.
وتثير هذه الآثار المدمرة للكارثة التي حلت بليبيا عدة تساؤلات وملاحظات، إذ تشير وكالة الأنباء الليبية إلى عدّة دراساتٍ علميةٍ فنيةٍ وهندسيةٍ وأكاديميةٍ قُدّمت إلى المسؤولين في الشرق الليبي، توصي بضرورة صيانة السدود دونما استجابة، إذ يبدو أن هذا خارج دائرة اهتمام الجنرالات في الشرق. وقد وجّه المجلس الأعلى للدولة وحكومة الوحدة بفتح تحقيقٍ بشأن هذه السدود وصيانتها، بعد ما أثير من تساؤلاتٍ مشروعة على مواقع التواصل الاجتماعي. وتمتزج حسرة الشعب الليبي بحسراتٍ أكبر لدى أوساطه العلمية والسياسية التي تتساءل: لماذا لم يُعمَل على صيانة سدّي درنة المنهارين اللذين تحمّلا عدة سيول ضخمة في السابق، وكان يمكن، حال صيانتهما، أن يتحمّلا هذه العاصفة، وألا تكون الوفيات والخسائر في الأرواح والمباني بهذه الفداحة؟
كانت العاصفة متوقّعة، ومعلوم وقت دخولها، وقد مرّت على بلدان مثل تركيا واليونان وإسبانيا، وتركت آثاراً محدودة في الأرواح والمنشآت، لا تقارن بأي حال بما تركته في ليبيا، فما الفارق، إذن، إن لم تكن مسألة الدولة وأجهزتها ووحدتها واستعداداتها، ووجود أجهزة قادرة على تقليل آثار الكوارث والتعامل مع الأزمات ومسؤولين منتخبين ومحاسبين، لا قائمين على السلطة أمراً واقعاً مفروضاً بالقوة العسكرية فقط من الداخل أو الخارج؟
لو أعطت مصر إثيوبيا خمسة آلاف ميغا وات كهرباء مجّاناً، لكان أفضل وأكرم وأهون من أن تتركها تقيم سدّاً بهذه القدرات في بلد يديره مجانين، في أيديهم قنابل موجّهة ضد مصر بالطبع
في ما يتعلق بمصر التي وإن بدأت تحرّكها متأخرة بعض الشيء، بعد تدخلات تركية وقطرية وإماراتية لتقديم الدعم والمساعدات، فإنها كثفت تدخّلها، وكان عنوانه اجتماعاً رئاسياً بقادة الجيش لتقديم الدعم لليبيا والمغرب، فما الذي يؤخّر استجابة دولة جوار لديها أكثر من 145 قتيلاً من عمالتها في دولة جوارها عن التدخّل إلى هذا الحد، رغم توافر الإمكانات والقدرات الفنية اللازمة للتدخّل السريع وتفادي الكارثة؟ فهي التي ضربت درنة نفسها من دون انتظار أي طلبات في العام 2016، بدعوى محاربة الإرهاب، فما الذي يجعلها تتأخّر عن دول بعيدة نسبياً ومصالحها أقلّ في ليبيا كثيراً؟
وإذا عدنا إلى سدّي درنة، فعلينا أن نستخلص درسنا القاسي من المعلومات المتوافرة عنهما، فوفقاً للمركز الليبي للدراسات الأمنية والعسكرية، يبعد سد البلاد عن قلب المدينة كيلومتراً واحداً فقط، وسعته التخزينية 1.5 مليون متر مكعب، بينما يبعد سدّ أبو منصور 13 كم جنوب السد الأول، سعته التخزينية 22.5 مليون متر مكعب، أي إننا نتحدّث عن مجموع سعة تخزينية لا تتجاوز 24 مليار متر مكعب، بينما سد النهضة 74 مليار متر مكعب، أي أكبر من حاصل ضرب مجموع سعة السدّين في ثلاثة آلاف ضعف. ومن هنا، تثار تساؤلات المصريين ومخاوفهم مع رؤية المشاهد المرعبة القادمة من درنة ومدن الشرق الليبي التي دُمّرت أحياؤها وجُرفت جثث آلافٍ من ساكنيها وراحت مبانٍ عديدة وبنى تحتية في البحر.
عندما تحدّث عصام حجّي ومحمد حافظ وعشرات من خبراء الهيدروليكا والمياه والسدود من الأكاديميين والباحثين المصريين والمعارضة عن كارثية سد النهضة حال انهياره ومخاطره على مصر والسودان، التي تجعلنا جميعاً تحت تهديد المياه، كان ردّ السلطة وإعلامها، معظم الوقت، أن هذه مبالغات إخوان مسلمين ومعارضة، فهل يتوقّف هذا الخطاب التخويني لصالح خطابات عقلانية، حيث إننا، من دون أدنى مبالغة، نتحدّث عن تأثيراتٍ بالسودان ومصر تزيد، في أحسن الأحوال، على ألف ضعف تأثيرات كارثة درنة حال سقوطه بالحسابات البسيطة، فضلاً عن احتمالية حدوث زلازل بسبب حجم بحيرة السد، وهو ما ذكرته دراسات عدة.
تثار تساؤلات المصريين ومخاوفهم مع رؤية المشاهد المرعبة القادمة من درنة ومدن الشرق الليبي
وقد كانت الشكوى الرئيسية لمصر والسودان أن أثيوبيا لم تقدّم الدراسات الفنية اللازمة عن التعامل مع الزلازل أو احتمالية سقوط السد وطبيعة التربة وتأثير كتلة بحيرة السد بجيولوجيا المنطقة نفسها والبيئة، وقد تهربت إثيوبيا من تقديم مثل هذه الدراسات في عشرات الجولات من المفاوضات في أكثر من عقد. وللتذكير، إثيوبيا بلدٌ مفكّك أكثر من ليبيا، وفيه ما يكفي من الصراعات الإثنية والدينية والسياسية المتجدّدة بين المركز والأطراف والقبائل وبعضها، التي تتحوّل إلى حروب أهلية بسهولة من عام إلى آخر، وليس آخرها الحرب الطاحنة على التيغراي، ومنطقة السد جزء من الصراع بين المجموعات العِرقية والسلطة.
حرفياً، لو أعطت مصر إثيوبيا خمسة آلاف ميغا وات كهرباء مجّاناً، لكان أفضل وأكرم وأهون من أن تتركها تقيم سدّاً بهذه القدرات في بلد يديره مجانين، في أيديهم قنابل موجّهة ضد مصر بالطبع. وسكوت المصريين عنه كأنما يهدون إثيوبيا القدرات النووية الإسرائيلية كاملة على طبق من ذهب.
الحديث إلى اللحظة فقط عن الجيش وتحرّكاته ومساعداته واستعراض قدراته على الدعم، وهذا محمود. ولكن هناك تساؤل: هل مات المجتمع المدني المصري أم غُيّب تماماً، هو والأفرع المدنية للحكومة، إلى هذا الحد؟ لا حديث إلا عن الجيش وتدخّله وتحريك حاملة الطائرات ميسترال، وهذا جيد، إلا أنه قد يثير تخوّفات ليبية وغير ليبية. وبينما جاءت الصحافة المصرية على وصول جثامين قرابة 75 مصرياً، فإن التقديرات الليبية لأعداد من الضحايا وسط العمالة المصرية في ليبيا أكبر بكثير من هذا، فمتى تصارح الدولة المصرية وأجهزتها مواطنيها بحجم الكارثة وحقيقة الوضع، أم سيظل المجتمع مغيباً ومعطلاً؟
رحم الله ضحايا ليبيا ومصر والمغرب، ورحمنا جميعاً ممن يحكُمون بلا قناعات بالعلم ودراسات الجدوى والدراسات والتحذيرات من الكوارث، وممن يُنفقون على البنية تحت قصورهم وقصور طبقة مؤيديهم أكثر من البنية التحتية التي تخدم عموم المواطنين، لأن الطوفان إذا جاء قد يجرف الجميع إلى الهاوية.