مفاوضات القاهرة والمخاوف المصرية
فيما انهمك المصريون في الحديث عن الحرب، ودخلوا مكلمة اختيار يحيى السنوار رئيسا للمكتب السياسي لحركة حماس، تارّة بمنطق التنظير شديد التعالي في بعضه على الواقع وعلى حركات المقاومة، وتارّات بمنطق الإشفاق على الشعب الفلسطيني من التبعات الكارثية للحرب، وأخرى تحمل نبرة الإدانة للمقاومة ذاتها. ومع تزايد المخاوف الدولية والإقليمية من توسّع الحرب إقليميا بعيد سلسلة الاغتيالات الكبيرة لقيادات من "حماس" وحزب الله، والمخاوف من ردود واسعة النطاق عليها، بالتوازي مع التطوّرات الميدانية للحرب، اتجهت أنظار كثيرين إلى مفاوضات القاهرة، هذه الجولة التي يعوّل كثيرون عليها أن تنهي هذه الحالة بالتوصل إلى وقف إطلاق نار، أيا كان الثمن.
وبالتأكيد، هذه المكلمات في بعضها مجرّد ممارسة لشهوة الكلام والإفتاء، فعندما تكون من بلد لا تستطيع تختار فيها رئيس مجلس قروي، وأكبر وأقدم تنظيم سياسي فيها لم يستطع أن يختار قيادة متفقاً عليها، وتقوم بالتعديل على الحركة الخضراء التي صارت رسالتها المقاومة عالمية، واستطاعت أن تختار قيادتها بالإجماع في قلب حرب خلال أيام قلائل، بينما نخبنا الدينية والمدنية، بكل أحزابها ورموزها، تمارس الكراهية السياسية والتعالي والعناد والاستكبار أكثر من عقد، بما يجعلها أبعد ما يكون عن أي فلسفة أو منطق أو تحليل، وتحتاج الكثير من رموزها ومثقفيها وقياداتها للكشف على قواها العقلية والنفسية، فلا شك أن هناك مخاوف لدى النظام من الإعجاب الشعبي بنموذج المقاومة.
المفارقة أن أبحاثاً ودراسات غربية عديدة عن الحرب التي امتدت أكثر من عشرة أشهر كانت تشير إلى مخاوف أكبر من مجرّد هزيمة عسكرية لإسرائيل، بل احتمالية حراكات شعبية قوية في المنطقة العربية قد تطيح حلفاء إسرائيل، بينما نخبنا غارقة في معاركها الهامشية، وتفتعل معارك مع المقاومة وتحاكم قياداتها وخياراتها في وضع شديد الاستثنائية، بقواعد تراها منطقية وعلمية وعقلانية، بينما تتعامل حركات المقاومة مع وضعٍ لا مكان فيه للعقل لدى المفاوضين الإسرائيليين والأميركيين الذين يرتكبون مجازر وحرب إبادة، ويريدون التوصل إلى اتفاقاتٍ تحول نتائج هذه الحرب من هزيمة استراتيجية لنصر استراتيجي بإفراغها من أي مضمون لمفاوضاتٍ تهدف إلى وقف حقيقي لإطلاق النار والانسحاب إلى ما قبل 7 اكتوبر، وتبادل حقيقي للأسرى بالكامل، ما يعيد أية مفاوضات إلى نقاط الصفر واحتمالية تمدّد الحرب وتحوّل المفاوضات إلى ملهاة كسب وقت ليس أكثر.
الهدف الأول لبايدن وبلينكن إدانة حركات المقاومة وتحميلها مسؤولية الحرب وفشل المفاوضات
ومن تحليل التصريحات الأميركية بشأن مفاوضات القاهرة، التي لا تفصح الحكومة المصرية عن كثير مما يجري فيها، يمكن القول أن الرئيس بايدن والوزير بلينكن يرتكبان أخطاء جسيمة في المفاوضات، فالهدف الأول لديهم إدانة حركات المقاومة وتحميلها مسؤولية الحرب وفشل المفاوضات، تماما كما فعلت بيانات عربية سابقة في 2006 و2008، بل واعتبارها السبب الرئيسي لعرقلة الوصول إلى اتفاق، وتحاول إدارة بايدن الظهور بمظهر الداعم المبدئي الذي لا يزايد عليه أحد للكيان. فالإدارة الأميركية تخضع لابتزاز الانتخابات، حيث عليها أن تقول إنها أكثر دعماً لإسرائيل من إدارة ترامب وتياره، فلا يزايد عليها بهذا الملفّ لتضمن المال السياسي اللازم للحملة. لكنها من جهة أخرى تخسر الشباب وبعض الأصوات العقلانية داخل حزبها والبلاد، والذي يرى أنه لا داعي لدعم اسرائيل إلى ما لا نهاية، وأنها يجب أن تستمع لنصائح داعميها على الأقل، وأنه لا دعم غير مشروط لها من ضرائب الأميركيين.
وبتبنّيهما الموقف الإسرائيلي بتفاصيله واشتراطات نتنياهو الجديدة، يفشل بايدن وبلينكن المفاوضات قبل أن تبدأ، فلا انسحاب ولا وقف كامل او دائم لإطلاق النار ولا انسحاب من محوري فيلادلفيا وتتساريم، بل الأمر أشبه بما طرح في بداية الحرب من حديث عن هدن متقطعة، وهذا يدفع الحرب إلى الإستمرار حتى نهاية السباق الانتخابي على الأقل، ويوفر لنتنياهو غطاء سياسياً ووقتاً، لكنه مقامرة كبرى. ووجه المقامرة أنه يقامر بالموقف المصري الرافض شكليّا احتلال محور فيلادلفيا أو قبول التهجير، ويهدّد بانفجار الداخل الإسرائيلي ضد نتنياهو، ويقامر باحتمال اجتياح لبنان والتوسّع في جبهة الشمال وإعطاء فرصة لحدوث الرد الإيراني أو توسيع الحرب لتطاولها وتعصف باستقرار المنطقة إلى الأبد.
لا توجد دولة عربية أو إسلامية تحاول أن تلعب الدور الأميركي نفسه بالنسبة للفلسطينيين، ولا تتدخّل فقط وسيطاً، حتى ولو بالتفاوض فقط
وبالإشارة إلى المخاوف المصرية من بقاء جيش الاحتلال في محور فيلادلفيا على طول الحدود، وهو موقفٌ شكلي، إذ كان الإعلام المصري يشكّك، في البداية، في احتلال اسرائيل مجدّدا محور نتساريم، ثم تحوّل الموقف إلى التقليل من أهمية المحور مع إدانة هامشية للسيطرة الإسرائيلية عليه، مع قبول ضمني في إطار رغبة دفينة للخلاص من حركات مقاومة لا تسير تحت جناح القاهرة، وهي مرئية بمنظار "الإمارة الإسلامية" التي لا تريدها القاهرة على حدودها منذ فوزها بانتخابات 2006 بالأساس، رغم التنسيق الاضطراري معها لاحقا.
ويبدو أن الصفقة التي طرحت في القاهرة معرّضة للخطر، خصوصا بشأن فيلادلفيا، حيث إن ميل المقترح الأميركي أخيراً لمصلحة مواقف نتنياهو قد أوصل المفاوضات إلى طريق مسدود، فالمقترح الذي قدّمته إدارة بايدن الأسبوع الماضي لسد الفجوات بين حركة حماس وإسرائيل قد بالغ كثيراً في تبنّي مواقف نتنياهو بشأن استمرار بقاء الجيش الإسرائيلي في معبر رفح ومحور نتساريم. ولكن هناك مخاوف حقيقية ينبغي التنبيه إليها لدى النظام المصري، وهي أن سيطرة إسرائيل على المحور والتي روّجتها بالشك في استمرار إمداد المقاومة بالأسلحة عبر أنفاق مزعومة، رغم تأكيدات مصرية متعاقبة بأنه لم يعد هناك أنفاق بعد إتمام صفقة إغراقها وإنشاء جدار فولاذي بعمق 16 قدما منذ عدة سنوات، في إطار الدور الوظيفي المصري بصفقة القرن، تشي باستمرار الشك في قدرة النظام المصري على أداء دوره هذا، وانهيار الثقة بينه وبين الإسرائيليين.
مخاوف حقيقية لدى النظام المصري من سيطرة إسرائيل على محور فيلادلفيا روّجتها بالشك في استمرار إمداد المقاومة بالأسلحة عبر أنفاق مزعومة
وهناك أيضاً مخاوف موضوعية تفيد بأن بقاء القوات الإسرائيلية في محور فيلادلفيا يحمل مخاطرة كبرى طالما استمرّت قوى المقاومة وعملياتها ضد تلك القوات، فواردٌ جدّاً أن تصل صواريخ المقاومة إلى الحدود المصرية، وواردٌ جداً أن تصيب جنودا مصريين، فما الموقف حينئذ؟ وهذا يلتقي مع المخاوف التي أشار إليها عبد الفتاح السيسي من التهجير إلى سيناء وانتقال عمليات المقاومة إلى هناك، كما هو الحال في لبنان وسورية، مع توريط مصر المنسحبة من الصراع في هذه العمليات مستقبلا.
أخيراً، المجهول سيد الموقف ولا توجد دولة عربية أو إسلامية تحاول أن تلعب الدور الأميركي نفسه بالنسبة للفلسطينيين، ولا تتدخّل فقط وسيطاً، حتى ولو بالتفاوض فقط، وهذه معضلة المنطقة بتعبير جمال حمدان. هناك دور تائه يبحث عمّن يلعبه ويكسب به الكثير، وهذه المرّة من دون أثمان كبيرة، فمن سيدفع باتجاه مجرّد الوصول إلى اتفاق سيتوّج بطلا، ناهيك عن غياب أي خيال سياسي عربي معاصر للمنطقة من دون إسرائيل التي يشكل وجودها نقطة توازن لبقاء أنظمة عدّة، أو حتى رؤية إلى مرحلة حرب استنزاف ممتدّة على عدّة جبهات، قد نكون في قلبها، على جبهات فلسطين ولبنان وسورية واليمن، وربما تتوسّع لتشمل أراضي إيران وتركيا، وتتداخل فيها قضايا المنطقة المعقّدة جميعاً، وليس فقط صراعاً حول خرائط انتشار القوات، كما هو الحال في هذه الجولة من المفاوضات.