مصر إذ تحصد ما زرعت سياساتها الغذائية

12 مارس 2022

مزارع مصري يحصد القمح في ساقية المنقدي في محافظة المنوفية (1/5/2019/فرانس برس)

+ الخط -

مع اندلاع الأزمة المتعلقة بالحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير/ شباط الماضي فقط، استيقظت الحكومة المصرية للبحث عن أزمة غذائية ساهمت السياسات في توطينها وتضخيمها عقودا، إذ كان تقليص الدعم الحكومي للزراعة أحد أهم بنود المؤسسات المالية الدولية واشتراطاتها في كل اتفاق لقروض جديدة، في ما عرف بسياسات الإصلاح الهيكلي وبرامجه منذ منتصف التسعينات حتى برامج الإصلاح الهيكلي الثلاثة التي اتفق عليها أخيرا نظام عبد الفتاح السيسي.

للوهلة الأولى، تبدو التصريحات الحكومية بالبحث عن 14 مصدرا جديدا للقمح، والحديث عن تغليظ عقوبات التعدّي على الأراضي الزراعية بشكل غير مسبوق، وحديث تشجيع المزارعين وتشديد الرقابة على الأسواق، تصريحات برّاقة وجيدة، لكن الواقع يشير إلى كوارث يتعلق أهمها بأزمة تخطيط وسياسات في قطاع الزراعة ساهمت، بشكل كبير، في إنتاج الواقع الحالي الذي تتسم أهم ملامحه في اقتصاد ومجتمع هو أكبر مستورد للقمح في العالم، وثاني أكبر مستورد للذُّرة، ومعتمد على الخارج أكثر من الداخل بشكل خطير في توفير السلع الغذائية الرئيسية له من قمح (44٪) وعدس (100٪) وفول (85٪) وزيوت الطعام (100٪)، على الرغم من أن الدراسات تشير إلى إمكانيات حقيقية لتحقيق الاكتفاء الذاتي من هذه السلع الاستراتيجية.

وهذه الوضعية شديدة الخطورة، إذا ما تزامنت مع أزمة ممتدّة كأزمة جائحة كورونا، وهي كارثية إذا كان قرابة 70% من الواردات من الزيوت والقمح في المتوسط تأتي من البلدين المتحاربين، روسيا وأوكرانيا، إذا افترضنا أن الحرب لن تمتد وتتسع خارج نطاقهما. والكارثة ليست هنا فحسب، بل تذكر تقارير أنه، في العامين 2018 و2019، كانت عشر شركات مستوردة فقط تستحوذ على 83% من الواردات، وخمس من هذه الشركات تستحوذ على 60% من الواردات. وبالتالي، نحن إزاء أزمة احتكار مافياوية خطرة، وأزمة تركز شركاء أشد خطورة وليس الانفكاك منها أمرا سهلا. وبالتأكيد، ليس الفلاح المصري مسؤولا عن هذه السياسات.

عاش العالم أزمة غذائية حادّة في العام 2009، مع تبعات أزمة الرهن العقاري، ويعيش منذ عامين في أزمة راهنة ممتدّة مع تبعات أزمة كورونا وتأثيراتها على سلاسل الإمداد والتوزيع. ويبدو أن الحكومة المصرية لم تأخذ بالجدّية الكافية القيود التي فرضتها دول عدة، منها روسيا ورومانيا، قبل عامين، ومع اندلاع جائحة كورونا، على صادرات السلع الغذائية، فحتى لو كانت تلك القيود مؤقتة حينها، فإنها كانت تشير إلى أزمة تلوح في الأفق.

لو استيقظت الدولة المصرية فقط عام 2014، وكان لديها تخطيط من هذا النوع، لما تدهورت أوضاع الأمن الغذائي لما هي عليه الآن

كما أن الحرب الدائرة الآن لم تقم بين عشية وضحاها، فهي أزمة ممتدة منذ قرابة العقد بين روسيا وأوكرانيا، وهو ما كان يقتضى تفكيرا وتقديرا استراتيجيا مغايرا. ولو استيقظت الدولة المصرية فقط عام 2014، وكان لديها تخطيط من هذا النوع، لما تدهورت أوضاع الأمن الغذائي لما هي عليه الآن، ولكانت ثماني سنوات كافية لتخطيط سياسات لتحقيق الأمن الغذائي وتنفيذها، أو تحسين مؤشّراته على الأقل. والحديث هنا عن أمن غذائي بمفهومه الضيق، لا بمفهوم السيادة الغذائية الأوسع والأشمل، بما يتضمنه من سيطرة محلية على السياسات الزراعية، وعلى عمليات إنتاج البذور والتقاوي، وكذلك إعادة ترتيب أولويات التركيبة المحصولية، واستعادة الأصول النباتية وتحريرها من احتكار الشركات العالمية، بما يخدم السوق المحلي، وليس اقتصاديات الإنتاج من أجل التصدير، والذي تزيد الحرب الحالية وأزمات الغذاء المتكرّرة من أهمية تبنّيه في التخطيط.

دائما ما تلقي الحكومة المصرية باللوم على الفلاحين والمزارعين المصريين عبر السنوات الماضية، حتى أننا، وفي عز الأزمة الحالية، نجد وزير التموين يهدّد المزارعين المتعدين على الأراضي الزراعية بتعليمات فورية من الرئيس بحذفهم مباشرة من الدعم التمويني الذي تقلص، بحد ذاته، إلى الحدود الدنيا، بحيث لم يعد يصل إلى 45 جنيها للفرد شهريا. وفي حقيقة الأمر، لا يساوي هذا المبلغ حتى قيمة ضريبة القيمة المضافة التي يدفعها المزارع عن جوالين من سماد من السوق الحر، وفيما يتضاعف السعر العالمي للقمح، تعد الدولة بزيادةٍ لا تسمن ولا تغني من جوع لأسعار توريد القمح في الموسم الجديد.

وعلى الرغم من اتفاقنا على أهمية منطق تغليظ العقوبة على التعدي على الأراضي الزراعية إلى أقصى مدى ممكن، وأية سياسة تصبّ في صالح الحفاظ على الرقعة الزراعية، إلا أن هذا يجب أن تسبقه سياسات مشجعة للمزارعين على التوسع الرأسي في البناء، بينما في الواقع تسقط القرى والأرياف من السياسات الحكومية المتعلقة بالحق في السكن وأية حقوق أخرى مترتبة عليه، حتى أن قرى ونجوعا عديدة لا تصل إليها عربات النظافة، وظلت مسألة توصيل الصرف الصحي لها مؤجّلة إلى عقود، في حين أنه يجري إتمام مشروعات العاصمة الجديدة والعلمين الجديدة بسنوات محدودة، كما أن التشريع والتطبيق الخاطئ لقوانين مخالفات البناء بالقوة خلّف احتجاجات غير مسبوقة في القرى في السنوات الماضية، وحاجات سكنية غير ملبّاة.

النظام الغذائي المصري لا يعمل في فراغ، ففي ظل تدني الأجور يصبح الخبز هو السلعة الوحيدة الأساسية المتاحة لهذه الأجور منخفضة القيمة

من ناحية أخرى، توجّه الحكومة نقدا حادّا للمواطنين على استهلاك بعض السلع، وهناك من يجد بعض وجاهة في هذا النقد على سطحيته، حيث النظام الغذائي المصري يعتمد على الخبز، ويسميه العيش، لارتباطه ببقائهم على قيد الحياة، لكن هذا النظام الغذائي المصري لا يعمل في فراغ، ففي ظل تدني الأجور يصبح الخبز هو السلعة الوحيدة الأساسية المتاحة لهذه الأجور منخفضة القيمة الحقيقية، فالخضروات والفواكه مرتفعة الثمن وغير مشبعة، والبروتينات الحيوانية تصبح في عداد سلع الرفاهية للغالبية العظمى للمصريين، في ظل موجات التضخم الناجمة عن سياساتٍ لا دخل للمواطنين فيها ولم يأخذ أحدٌ رأيهم فيها.

قد يكون المواطن أو المزارع مخطئا في بعض سلوكياته، لكنه بالتأكيد ليس مخطئا فيما يحدث من هدر في عمليات تخزين الحبوب، والتي قد تصل إلى 15% في القمح والحبوب واللحوم، وهي أعلى من هذه النسبة في هدر الخضروات والفواكه، بحسب تقارير منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، ويعزي ذلك الهدر الكبير إلى سوء (وتردّي) طرق الجمع والتخزين والنقل وطول السلسلة الغذائية بين المنتجين والمستهلكين، وعدم تحديث أنظمة الري والنقل منذ عقود.

وفيما تتضارب التصريحات الحكومية بشأن إنتاج مصر من القمح، فهو، في الحقيقة، قد يكون أعلى من التقديرات الحكومية، لكن المشكلة أن الناس لم يعودوا واثقين في الحكومة، فما يورّد إلى الصوامع أو يباع للتجار، قد لا يزيد عن نصف الإنتاج، إن وصل إلى هذا النصف، حيث يخشى المواطنون دوما من سياسات رفع الدعم التي جعلت من تخزين القمح والأرز والذرة تحوّطا مهما لدى المزارعين لمواجهة أي أزمات.

جل ما تُطلق من مشروعات قومية، سواء في توشكى أو المليون ونصف فدّان أو الدلتا الجديدة، سياسات غير واقعية وفوقية

كما أنه بتغييب الدعم وإهمال مسألة الحيازات الزراعية، وإسقاط العديد منها بطول الدورة المستندية، أو بوفاة أصحابها، وعدم اتّباع سياسة توصيل الدعم إلى من يزرع الأرض وليس إلى مالكها، وضعف أجور المشرفين الزراعيين، توقفت عمليات الرصد والحصر بالمعاينة كما كان متّبعا. ويمكن القول، بأريحية، إن كل ما هو خارج الدعم غير محصور وتقديري بحت من الإدارات الزراعية، اعتمادا على دفاتر غير محدثة منذ عقود.

لا ينكر المرء الاهتمام المصري بالمسألة الزراعية في السنوات الماضية، لكن بمراجعة جل ما تُطلق من مشروعات قومية، سواء في توشكى أو المليون ونصف فدّان أو الدلتا الجديدة، هي سياسات غير واقعية وفوقية، ولم تأخذ بدراسات كليات الزراعة ومراكز البحوث، على ما فيها من خبرات متميزة، وهي تعمل لصالح احتكارات بعض الشركات الزراعية الخليجية الكبرى، وتدعم استحواذها على الأراضي، كما أنها لم تُشرك الفلاحين في وضعها وتنفيذها في نظام زراعي وغذائي، لطالما كان الفلاح والفلاحة تاريخيا محوره ومبدؤه ومنتهاه. كما أن السينما والدراما و"السوشيال ميديا" وسياسات التعيين في الدولة المصرية خير شاهد على التقليل من شأن الفلاحين وأبنائهم. وفيما تقدّم الدولة المصرية دعما بعشرات المليارات لدعم الصادرات والمصدّرين الذين لا يتجاوزون الآلاف، لم يصل الدعم الحقيقي إلى المزارعين الذين يشكلون ربع قوة العمل المصرية حد المليار جنيه في العام المالي الماضي.