مواصلات عامّة لمصر والمصريين

14 يوليو 2024

(محمد عبلة)

+ الخط -

يُلاحظ أي مواطن أو زائر دائم لمصر، وبالذات من دول شبيهة أو أكثر تطوراً، أن هناك أزمة مواصلات مزمنة في البلاد، وأهم أسبابها غياب الدولة وتغييبها عن قطاع النقل، فعندما فشلت الدولة المصرية عن توفير نقل عام آدمي للمصريين، استعانت بعدة شركات نقل جماعي، خصوصاً لتأدية دور أكثر من أولي للدولة في أي بلد يمكن أن نطلق عليه دولة، وعلى سلطة الحكم فيه، حكومة أو نظاماً.

بدأت الشركات الخاصة تتسلّل إلى مجال النقل العام الداخلي الجماعي للمدن المصرية منذ بداية عهد النظام الحالي، وكانت أسعارها حينها أغلى بكثير من القدرة الشرائية لغالبية المصريين من الطبقات الباحثة عن نقل جماعي أو عام في بلدٍ كان من أوائل البلدان التي أدخلت النقل العام إلى عاصمتها. وحتى عندما تدهورت النيوليبرالية المصرية قبل عهد عبد الفتاح السيسي، سمحت الهوامش فيها بنمو تعاونيات النقل الجماعي التي حلت محل الدولة ومواصلاتها العامة، ولو بصيغ رديئة، لتأدية الخدمة لملايين المصريين عقوداً.

عبر أكثر من عقد ونصف عقد من ثورة يناير، تزايد السكان وتزايد الطلب على الدولة وخدماتها العامة، وكذا المطالبات بنقل عام آدمي للجميع وليس للقاهرة والإسكندرية وحدهما، كما كان حال الدولة المتكلسة القابعة في مكانها وتتدهور منذ السبعينيات، وتداخلت معها أزمات عديدة من دخول مركبة التوكتوك وحوادث الجريمة والعشوائية التي ارتبطت بها إلى أزمات المواقف والقطارات ووسائل النقل بين المدن.

هناك أزمة مواصلات مزمنة في البلاد، وأهم أسبابها غياب الدولة وتغييبها عن قطاع النقل

لتظهر الشركات الخاصة في الواجهة، اختارت الشركة الأولى العاملة في القاهرة الكبرى فقط لنفسها اسم مواصلات مصر، تماشياً مع موجة الشوفينية الوطنية المصاحبة لرجالات "30 يونيو"، وكأننا في سباق لإفناء الذات المصرية واختصارها في مصر، الكيان الهلامي الذي يموت الناس من أجله ليحيا، وكأن الأوطان يمكن أن تحيا من دون بشر يعيشون عليها حياة آدمية وينتقلون بكرامة، بل عليهم أن يقضوا جزءاً مهماً من حيواتهم في الشوارع، بانتظار وسائل النقل أو بطلب السلامة من تهوّر سائقي النقل الجماعي الخاص ومعاركهم حول الدور والأجرة والتحصيل. ولكن استجابات عباقرة السياسات العامة في النظام الحالي يبدو أنها كانت تستحضر مقولة خالدة واحدة، وهي بمثابة فلسفة للحكم الحالي، وهي "الفلوس يا كامل"، فأدخلت فكرة سيطرة الشركات الخاصة على سوق النقل الجماعي في المحافظات، فيما تراجعت أدوار هيئات النقل العام والتعاونيات لصالح الميكروباص وثقافته الخاضعة لسيطرة الرساميل والقواعد الجمركية والجبائية المتحكمة باستيراد السيارات وتصديرها، والتي حولت المصريين من ركاب السيارات اليابانية الجيدة نسبيا رغم ضيقها إلى سيارات صينية أكثر ضيقا ورداءة مع أسعار وتسعيرات أجرة أعلى، فأصبحت الدولة تضارب في أسعار السيارات بالجمارك المرتفعة جدّا، وفي اللوحات المعدنية، وفي لوحات الأجرة بشكل مافياوي فج.

قد تزيد تكلفة الذهاب إلى الجامعة والعودة منها في محافظاتٍ عديدة عن مائة جنيه يومياً

لدى مصر خارج القاهرة الكبرى والإسكندرية أكثر من 20 مدينة/ محافظة مليونية، لدى أكثر من نصفها تعداد سكاني أكثر من خمسة ملايين، وتعاني من تكدّسات القاهرة وعشوائيتها بدرجات متفاوتة، سواء من حيث غياب التخطيط الحضري أو تصاعد النمو العشوائي غير المخطط للمساكن. ويتساءل سكان هذه المحافظات وعواصمها عن حقوقهم في المواصلات العامة الآدمية، وما إذا كانوا خارج دائرة الضوء في ما يرتبط بالدولة وخدماتها العامة التي عادة ما تصل إليها متأخّرة وقد لا تصل، ومنها النقل.

وبينما كان جواب الدولة وحكوماتها المتعاقبة دائما أنها لا تتحمّل أعباء إضافية، وأنها في طريقها إلى التقشّف، لا يمكن أن تتوسع في أية بنود تراها أعباء جديدة، فإن شهية القطاع الخاص بدت مفتوحة بشدّة للاستثمار في هذا القطاع، سواء المحلي عبر صفقات استيراد الميكروباصات الصينية التي لا تتحمّل غالبيتها حرارة المناخ المصري وسوء الطرق، أو عن طريق دخول مستثمرين أجانب في قطاعٍ لا تراه الحكومة مربحاً.

بدأت الشركات الخاصة هذه تتسرّب إلى المحافظات بالعشوائية نفسها للأسف، وإن كان هذا تقدّماً جيداً، لكن المنتظر أن تدخل الدولة نفسها هذا المضمار، وأن تتنبه إلى حقوق سكان هذه المحافظات والمدن المتكدسة في نقل عام آدمي مثلهم، مثل القاهرة الكبرى والإسكندرية، وأنهم يعانون منذ عقود من هذا الغياب، بينما يجرى اتهامهم بالتسبّب في ازدحام هذه المدن وتدهور خدماتها العامة. ولا يعقل أن تترك محافظاتٌ تعداد كثير منها أكبر من دول في الخليج، أو جورجيا مثلاً، من دون مواصلات عامّة آدمية، بل في أية جهود تنموية محترمة قد تحتاج بعض المحافظات شديدة الازدحام في الدلتا لخطوط مترو وترامواي بجانب حافلات النقل العام الغائبة عنها. ويكلف هذا الغياب بعض الأسر ميزانية ضخمة للتنقل إلى أماكن العمل أو التعليم، فقد تزيد تكلفة الذهاب إلى الجامعة والعودة منها في محافظاتٍ عديدة عن مائة جنيه يومياً، وبالذات بعد نقل هذه الجامعات إلى المدن الجديدة التي تتقطع السبل بساكنيها من غير أصحاب السيارات بعد السادسة مساء.

بعد كل استثمارات القطاع الخاص المحلي والدولي في النقل والمواصلات في مصر، لا تزال الأزمة ظاهرة

وعلى كل حال، بعد كل استثمارات القطاع الخاص المحلي والدولي في النقل والمواصلات في مصر، لا تزال الأزمة ظاهرة لكل من لديه نظر ويتجول في مواقف المدن والمحافظات. وتزداد الأزمة تعقيداً في المناسبات والأعياد، فلا يكاد المرء يجد كرسياً في وسائل النقل بين المحافظات من دون حجز مسبق قبلها بأيام، وبضعف التكلفة تقريباً، والتي لا تزال، رغم تحديدها من المحافظين، محلاّ للتفاهم بين السائقين وأمناء الشرطة والضباط القائمين على كمائن الطرق. وطوال العام، لا تكاد تجد سائقاً واحداً من العاملين على الخطوط من القاهرة إلى الأقاليم ملتزماً بالتعرفة الرسمية التي صارت مزحة، عندما يجادل الراكب بأن المحافظ حدّدها برقم كذا، يرد السائقون بأن عليه ركوب المحافظ بدلاً من سياراتهم. وتقف المطارات بعيدة عن شبكات النقل الجماعي ناهيك عن العامّ، ليبقى قرابة 15 مليون مصري مقيم في الخارج وأهاليهم تحت رحمة سائقي الميكروباصات والتاكسي والسيارات الخاصة التي تعمل في الظل ومن دون ضابط أو رابط، بينما كان يمكن للدولة وبتكلفة بسيطة أن تربط تلك المطارات بقلب المدينة بحافلات عامة آدمية، ولو بتكلفة أعلى من النقل داخل المدن.

هكذا تسير الأمور في دولةٍ تناهز مساحتها مليون كيلومتر مربع وتتباعد مدنها عن بعضها وعن عاصمتها مئات الكيلومترات من دون تنظيم جيد يحفظ كرامة (وحقوق) الركاب والسائقين والدولة التي يمكن أن تكسب المليارات جرّاء تفكير هو من داخل الصندوق في دول كثيرة مشابهة لمصر، بإنشاء أنظمة مواصلات عامة لعموم الجمهورية، وتصل إلى أحيائها ومدنها الجديدة وتحمي حرية الحركة والحق في التنقل، وهي متطلبات أولية لجذب الاستثمارات وتحقيق تنمية عادلة ومستدامة، وتساهم في تخفيف حدّة الفقر واستغلال القطاع الخاص للمواطنين، وتساهم في تحسين مؤشّرات البلاد في مجالاتٍ كثيرة.