لماذا لا تردّ مصر على انتهاكات إسرائيل؟

01 يونيو 2024

تشييع الجندي المصري الشهيد عبد الله رمضان في الفيوم (28/5/2024/الأناضول)

+ الخط -

استُشهد، قبل أيام، مجنّدان من الجيش المصري في اشتباكاتٍ ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة، على الحدود مع فلسطين المحتلّة، المُعضلة أنّ الجيش والسلطات المصرية نكّرا هُويّة الجندي المغدور، ووصفه بيان المتحدّث العسكري، الذي جاء متأخراً كثيراً، بـ "أحد عناصر التأمين"، وانطلقت مواقع التواصل الاجتماعي في متابعة الحادث، ما بين قائل إنّ العدد الحقيقي مُجنّدَان، ونفي رسمي لذلك، وبين مشاهد الجنازة غير الرسمية والصامتة والمؤلمة، والبيانات والتحليلات الرسمية، التي يغلب عليها الحياء من الطرف الآخر، وكأنّنا في موقف اعتذار واستنكار، بغضّ النظر عن تفاصيل الحادث.

يُبرّر بعضهم التسمية والبيانات الهزيلة ببنود اتفاقية السلام، التي لم تكن مُلحقاتها، حتى وقت قريب، تُتيح وجود عناصر الجيش في الشريط الحدودي، لكن إجماعاً يكاد يكون هناك، حتى بين العسكريين المصريين، على أنّ إسرائيل خرقت بنود اتفاقية السلام البارد بين الدولتَين عشرات المرّات، سواء منذ بدء حرب 7 أكتوبر (2023)، وعلى مدار الثمانية أشهر المنصرمة، أو حتى ما قبلها بعقد، في أثناء الحروب الخاطفة على القطاع، سواء بالتفاهم والتنسيق مع الجانب المصري أو من دونه. ولكن، لا يوجد ردّ حقيقي يجعلنا نأخذ الدولة المصرية ونظامها السياسي على محمل الجدّ. ويتساءل بعضهم: هل لو كان الأمر متعلّقاً بتركيا أو إيران، أكانتا لتصمتان عن دم أبنائهما من دون ردٍّ يحفظ لدولة قومية براغماتية هيبتها وأسباب بقائها؟ هذا ما تقوله السياسة العملية البراغماتية البحتة، لا قواميس التعاطف والإنسانية والنشطاء، ولا حتى القواميس الدينية، إنّما تقتضيه حماية الأمن القومي، التي لأجلها يُشتَرى السلاح، ويعطى الأولوية على قطاعاتٍ أخرى، ليحفظ للوطن والمواطن كرامته.

أقامت تركيا الدنيا ولم تقعدها عقب أحداث الاعتداء الإسرائيلي على سفينة مرمرة في عام 2010، أمّا إيران فتردّ على الهجمات السيبرانية بعمليات ضدّ سفن إسرائيلية في الخليج وبحر العرب والمحيط الهندي. وها هي، أخيراً، تقدّم نفسها طرفاً في الحرب، سواء عبر أذرعها وقواعدها وعملياتها الخارجية، التي نجحت في توظيفها لحماية أمنها خارج الحدود، أو بنفسها، كما فعلت في ضربات مباشرة، وكلتا الدولتين تتصرّفان تصرّف دولتَين قوميتَين تدافعان عن أمنهما، ولم تدّعِ أيٌّ منهما أكثر من ذلك، وإذا كان بعضٌ يشكّك في ما تفعلان على أنّه تمثيليّة أو عرض مسرحيّ، فلماذا لا يقدّمون عروضاً مسرحية أكثر من هذه أو على الشاكلة نفسها حتى؟

 إجماع، حتى بين العسكريين المصريين، على أنّ إسرائيل خرقت بنود اتفاقية السلام البارد بين الدولتَين عشرات المرّات

كيف تسوّغ الدولة المصرية والنظام السياسي تمرير مثل هذه الحوادث عقوداً، من دون ردّ أو بردود ساذجة عندما يقتل جنود مصريون بالقول إنّها أحداث فردية، ونريد الحفاظ على السلام باعتباره مكتسباً استراتيجياً منذ السبعينيات؟ لماذا، إذن، هذا الإنفاق العسكري كلّه، من دون تطوّر يذكر في التصنيع أو الهندسة العكسية أو تحقيق قدر معقول ومقبول من الاكتفاء الذاتي، بدلاً من الاعتمادية المُفرطة على الخارج؟... يقولون لنا إنّ في حدودك إسرائيل، ومَنْ يقاتلها يقاتل العالم معها، وقد تكون هذه نقطة وجيهةً. لكن، أليست حركات المقاومة المحاصرة تماماً، وإيران، التي تواجه عقوباتٍ منذ عقود، قد طوّرتا بإمكانات بسيطة أسلحة نوعية لم تطوّرها جيوش المنطقة ذات الشواطئ والأجواء والأسواق والطرق المفتوحة، والقواعد التي يُفترض أنّها تعلّمت تعليماً جيداً في الداخل وفي الخارج؟ ألم تطوّر تركيا، العضو في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، والخاضعة لقيود شديدة، صناعاتها الدفاعية ومُسيّراتها، وأصبحت مُصدّرة لمُعدّات عسكرية عديدة، وتتدخّل في صراعات دولية بعيدة تماماً عن حدودها، فتحسمها بما يخدم مصالحها القومية، سواء في ليبيا أو أذربيجان أو إثيوبيا؟

يصرُخ فينا، نحن المصريين، ضبّاط كبار، وخبراء عسكريون، ومذيعون في الإعلام، مردّدين روايات الاحتلال نفسه، إنّ هؤلاء الجنود المصريين هم من يتحمّلون نتيجة أخطائهم الفردية، وحماستهم الزائدة، وليست الدولة المصرية، وأنّ إسرائيل ساهمت في الحرب على الإرهاب، وتغاضت عن اختراقات مصرية محدودة لاتفاقية السلام وملحقاتها. لكنّ هذا الطرح، على تفاهته، مردودٌ عليه بأنّه، وإن صحّ قوله في الأحوال العادية، لا يصح الآن، ونحن في ظلّ حرب هي إقليمية بالفعل، وممتدّة منذ ثمانية أشهر، وتُؤثّر تبعاتها في كلّ دول جوارها، ومصر بدرجة أكبر، بكلّ تأكيد، فضلاً عن إمكانية تأثيرها في المكونات الداخلية للنظام السياسي كافّة، وتفاعلاته ومُخرجاته، بل، أيضاً، تخترق إسرائيل الاتفاقات باحتلال محور فيلادلفيا، وإدخال ألوية من قوّاتها إلى منطقة تحظر الاتفاقات وملحقاتها فيها هذه الأعداد، وهذه المُعدّات والعمليات، فلو افترضنا أنّ من يقطنون غزّة من فصيلة الجن أو من قوميةٍ أخرى، ولا يقلّ عداء النظام السياسي والشعب لهم عن العداء لإسرائيل، فإنّ أفعالاً كهذه تشكّل تهديداتٍ خطيرةً للأمن القومي في أضيق معانيه، وأكثرها تقليدية، وليس فقط بأبعاده الأشمل والأوسع.

أقامت تركيا الدنيا ولم تقعدها عقب أحداث السفينة مرمرة في عام 2010

لم ينته الأمر عند هذا الحدّ من الخنوع والخضوع، بل لا نجد جنازة عسكرية، ولو رمزية، تليق بهؤلاء الجنود البسطاء المغدورين بيد حكومتنا قبل يد الاحتلال، فالتصريحات تجهّل الشخص حدّ تسميته عنصر أمن أو حراسة، وهذه من توصيفاتٍ تستخدمها صحف الاحتلال أو حتى الصحافة الصهيونية العالمية، في وصف أحداثٍ كهذه، ويعتصر المصريين الألم من أن يُساوى بين الضحية والجلّاد، أكانت المعركة بين الفلسطينيين والإسرائيليين أو مع أبناء جيشنا، ويتساءل بعضهم: لماذا لا يُزجّ إلا بأبناء البسطاء من الصعيد والأقاليم في تلك المناطق الحدودية؟ ولماذا لا يذهب أبناء القادة؟ لماذا لا يموت إلا من يشبهوننا؟... ويبدو مشهد الجنازات مفسّراً، فالقرى قد تخرُج عن بكرة أبيها في جنازة، لكن، لا أحد سوف يسمع ضجيجها، بينما امتلاء شارع كبير بالمصلّين أو المتظاهرين في المدينة، على إثر جنازة، قد يعتبره النظام تهديداً للنظام نفسه. المثير للدهشة، أنّك تشعرُ بأنّ النظام يُجامل إسرائيل في عدم التعبير عن أيّ حزن أو قلق رسمي حقيقي عقب استشهاد أيّ مُجنّدين، بل هذه المرّة، يتعامل الإعلام وخبراء النظام وكأنّ المسألة ردٌّ طبيعي إسرائيلي على مقتل سيّاح أو رجل أعمال صهيوني في الإسكندرية، في تبريرٍ علني للتخاذل، وتصويره باعتباره تصرّف دولة لا تصرّفاً أهوج لنشطاء، يسعى لزجّ المصريين في حرب كأنّما لا ناقة للنظام فيها ولا جمل، ويريد نقل هذه السردية لأكبر قطاع من الجمهور المصري العام.

 لا يبدو أن هناك أيّ نيّة حقيقية للتصعيد، ولو اقتصادياً وتجارياً، من مصر ضدّ الاحتلال، لمحاولة إظهار أنّ لديها أنياباً، ولو ناعمة، ولا تزال أكثر من 1160 شركة مصرية مُطبّعة، وفقاً لبروتوكول كويز (2004)، تدخل مكوّنات إسرائيلية في صناعتها للاستفادة من حوافز ضريبية وتصديرية لأميركا لتحدث تراكماً للثروات والنفوذ لدى نخبة ليس من مصلحتها، في أيّ وقت من الأوقات، توتّر العلاقات بين البلدين. هذا، أيضاً، مردود عليه بأنّ أكبر الشركاء الإقليميين للاحتلال، وهي تركيا، ققطعت العلاقات التجارية والاقتصادية، وهو، وإن كان قراراً متأخّراً كثيراً، إلا أنّها من دول "ناتو" ولا تربطها مع فلسطين حدود، ولا قومية، ولا شيء غير الدين وحده، وموقف إنساني ربما تتّخذ دولٌ غير عربية أو غير إسلامية موقفاً أقوى منه، كما هو الحال بالنسبة لجنوب أفريقيا، مثلاً.

لا يبدو أن هناك أيّ نيّة حقيقية للتصعيد، ولو اقتصادياً وتجارياً، من مصر ضدّ الاحتلال، لمحاولة إظهار أنّ لديها أنياباً، ولو ناعمة

بل حتى في موقفه الذي يعدّه بعضهم في صلب قضية التهجير، يسبب النظام هذا الموقف، منذ البداية، باعتباره تهديداً لاتفاقية السلام، والجهود المبذولة منذ 40 عاماً، تلك الاتفاقية، التي تُنتهك ليلَ نهارَ من الاحتلال، بل يُضاف إليها ضرب الكيان بالقرارات الدولية، سواء للجمعية العامة للأمم المتّحدة أو مجلس الأمن أو الجنائية الدولية، عرض الحائط، واستمرارها في دهس القانون الدولي. إذن، نحن في هذه الحوادث الفردية المتراكمة كلّها لا نزال نُحدث تراكماً من انفصال، بين مزاج شعبي عام جارف ومتعاطف مع منفّذي تلك العمليات أو ضحاياها من جنودنا، وبين خزي وتبرّؤ حكومي شبه تامّ من هذه الأفعال، بل وتشنيع بها، وتحذير منها في كثير من الأحيان، وهذا خطر، أيضاً، على النظام ذاته يراكم غضباً.

ويظلّ السؤال، حتى الآن: لماذا لا تردّ مصر على هذه الإهانات الإسرائيلية؟ وماذا فعلت مصر والأردن بالفعل لإيقاف التهجير؟ وهل كانتا لتصمتان إذا كان من يقفون على بعد أمتار من حدودِهما فلسطينيون يريدون العبور وتجاوزوا الحدود تحت القصف؟ أم كانتا لتساعدان العدو في قصفهم، سواء لإظهار أنهما تحاولان منعهم من ترك القطاع أو لإظهار قدرة ما على حماية حدودهما وتكسير عظام من يريد عبورهما، بتعبير مُفكّر مصري شهير مقرّب من نظام حسني مبارك، وأخرى لوزير خارجيته الأخير، أحمد أبو الغيط، الذي مع الأسف، يرأس لجامعة الدول العربية حالياً، ولا يبدي تصريحات بقوّة ما للأمين العام للأمم المتحدة أو حتى المفوّض الأوروبي للشؤون الإنسانية؟