مجنزرات ضد ثورة ناعمة في السودان
(1)
ثورة مثل ثورة السودانيين على نظام عمر البشير الشمولي الذي جثم على صدورهم ثلاثين عاماً تمثل تجربةً ينبغي أن تتدارس بداياتها ونهاياتها، شعوبٌ مغلوبةٌ على أمرها تقف في صف الانتظار، لتهبّ على نظمها الاستبدادبة وحكامها الطغاة. إذا نظرتَ إلى تجارب أمم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في السنوات التي خرجت معظم شعوبها من ربقة الاستعمار والإدارات الكولونيالية في النصف الأول من القرن العشرين، ستجد قواسم مشتركة تتمثل في نظم سياسية تخلّقت من أصابع الكولونياليين الكبار، تتشابه نظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إلى حدود التماهي. ثمّة إرثٌ شموليٌّ يكاد يشكل طبيعة فيها، ومظاهر استشراق مثل التي حدّث عنها إدوارد سعيد، فكأن ثقافاتها تماثيل فولكلوريةً قابعةً في متحف عاديات. أخرجت تلك الشعوب فئاتٌ من نخبها، ونقلتها، بعد سنوات الحرب العالمية الثانية، إلى رحاب التحرّر والاستقلال. من براثن الجهل والمرض والتخلف، جهدت نخبٌ من طلائع المتعلمبن المستنيرين لتولي تلك المهمّة العسيرة. كان للإعلان العالمي لحقوق الإنسان الأثر الأكبر في تحقيق بلدانٍ كثيرة في العالم الثالث، وخصوصا بلدان القارة السمراء، غير أن شعوب تلكم البلدان تعثّرت في مسيرتها للبناء وللتنمية، فسقطت في فخاخ نظمٍ استبداديةٍ توارث حكمها نخب من أسر حاكمة، أو عقائديون أنصاف أنبياء أو عسكريون انقلابيون أنصاف أمراء.
السودان، البلد الممتد في الوسط الأفريقي، بين قوسي الشرق الأوسط والشمال الأفريقي، ليس حالة مستثناة.
(2)
نخبٌ من المتعلمين من أبناء السودان ومن المتنوّرين، تولّوا قيادة البلاد من كهوف التخلّف إلى براحات التحرّر والاستقلال الوطني، غير أنّ علل التخلف، وهي من متلازمات بلدان العالم الثالث، أفضت بهم إلى حالٍ من قصر النظر لم تنجز معه مطلوبات بناء الأمة، فانقضّتْ نخبٌ عسكرية تربّعتْ على الحكم فيها بلا مسوّغات.
سيفاجأ جنرالات السودان، هذه المرّة، بمجابهاتٍ مع مقاومة ناعمة وشرسة في الوقت ذاته
في الستين عاماً وأكثر، التي انطوت منذ استقلال السودان عام 1956، تقلبتْ البلاد بين نظمٍ ديمقراطية في سنوات قليلة، ثم أخرى عسكرية سنوات أطول. دارت تلك الدائرة الشريرة دوراتها أكثر من ثلاث مرّات خلال ستين عاماً أو يزيد. كانت تلك دائرة شرّيرة بلا مراء. حين ظنّ الجميع أنّ انتفاضة السودانيين على حكم البشير في ديسمبر/ كانون الأول 2018، ستضع خاتمةً توقف تلك الدائرة الشرّيرة في السودان، فاجأهم العسكر من جديد، مثلما فاجأ العالم، بانقلابٍ تقليدي، قاده جنرالٌ واحدٌ اسمه عبد الفتاح البرهان، بمزاعم تصحيح المسيرة، إلا أن أحوال انقلاب الرّجل لن تكون مثل أحوال انقلاب من سبقوه: مثل الجنرال إبراهيم عبود عام 1958، أو الجنرال جعفر نميري عام 1969، أو الجنرال عمر البشيرعام 1989. سيفاجأ جنرالات السودان، هذه المرّة، بمجابهاتٍ مع مقاومةٍ ناعمةٍ وشرسةٍ في الوقت ذاته. شباب يقود حراكه الثائر بنفسه، من دون انتظار لنخبٍ مصطفاة لتقودهم.
(3)
لعلّ أول تجليات الحداثة التي رافقت بزوغ القرن الحادي والعشرين تمثلت في ظواهر العولمة وثورة الاتصالات والانفتاح على إمكانات التواصل الرقمي والافتراضي. فيما انشغل المفكّرون العرب بمشكلات النهضة والحداثة زماناً طويلاً، على قول المفكر العربي علي حرب، فإنّ واقع الحراك والانتفاضات الشبابية التي تجلّت في ما وصفت بثورات الربيع العربي في مصر وليبيا وتونس وخلالها، قد تجاوزتها بفراسخ، ولم تعد من حاجةٍ لنخب مستنيرة تتولى القيادة والتجييش، كما في السابق. يكفى الشباب أن يكون حراكهم محتدماً إثر كبسة زرٍّ على موبايل، فيجتمع الألوف منهم ليهدّوا جداراً يتوارى خلفه ديناصور من ديناصورات الاستبداد. تلك استنارة العولمة التي تفوّقت على الاستنارة التقليدية التي أنجبتْ، في زمان مضى، نُخباً كان لها تاريخ ومكان.
سيتعب الانقلابيون طويلاً لفهم كيمياء ثائرات وثوّار لا يتعبون ولا يغمض لهم جفن
(4)
الانقلاب الذي وقع في السودان فجر يوم 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، وإنْ جاء بمبرّرات حماية ثورتهم التي أشعلوها منذ ديسمبر/ كانون الأول 2018، فإن شباب تلك الثورة بادر بما يشبه السحر إلى تشكيل صفوفه، وهبَّتْ جموعهم فجراً إلى الطرقات لاحتلالها، قبل أن تحتلها المجنزرات. لم ينتظر الشباب قائداً يأخذهم إلى المواجهات، ولا بطلاً يتصدّر حراكهم، ولا خطيباً مفوّهاً يردّدون معه شعارات الثورة "حرية، سلام وعدالة". كلا. لا حاجة لهم لمن يتبرّع بإعانتهم في حراكهم، إذ هُم من صاغوا الشعارات. هُم من زيّنوا الجدران بوجوه شهداء ثورتهم. هُم من كتبوا الأشعار. هم من أنشدوا وتغنّوا لثورتهم. قبل ذلك كله، هم من فتحوا صدورهم لاستقبال هجوم المجنزرات.
سيتعب الإنقلابيون طويلاً لفهم كيمياء ثائرات وثوّار لا يتعبون ولا يغمض لهم جفن، ساروا في شوارع الخرطوم يرفعون الشعارات بلا كلل ولا ملل. لم يُسمعوا أصواتهم للانقلابيين فحسب، بل بلغت أصواتهم أسماع العالم.