متى تندلع "حرب لبنان الثالثة"؟
ما زال القادة السياسيون والعسكريون الإسرائيليون، منذ اندلاع معركة طوفان الأقصى، يتوعّدون حزب الله بحرب طاحنة، يتم إخضاعه فيها تماماً، جديدها أخيراً تصريح رئيس الأركان الإسرائيلي هرتسي هاليفي عن اقتراب إسرائيل من النقطة التي سيكون لزاماً عليها أن تتّخذ فيها قراراً بشأن التصعيد في الشمال، وحديثه عن استعداد الجيش للهجوم. تهديدات تتصاعد حدّتها، أو تتراجع، لكنها لا تتوقّف أبدا. ويحاول هذا المقال مناقشة مدى رغبة إسرائيل وجاهزيتها للذهاب إلى حرب واسعة واحتمال اندلاعها، بدلا من المناوشات الحالية المتصاعدة بين الحزب وإسرائيل، التي اعتبرها الصحافي في "يديعوت أحرونوت" يوسي يهوشوع حرباً حقيقية، لا مجرّد مناوشات، خصوصاً أن صواريخ الحزب ومسيراته الانتحارية أصبحت تصل إلى عكا، ومناطق يسكنها أكثر من 50 ألف شخص، علاوة على تضييق الحزب حرية عمل سلاح الجو الإسرائيلي في سماء لبنان، بإسقاطه المسيّرات الإسرائيلية المتقدّمة هيرمس 900.
يعرف الجميع، في إسرائيل وغيرها، أن الحرب ضد حزب الله لن تكون مثل غيرها، بل ولن تكون كحرب لبنان الثانية 2006، فما يمتلكه الحزب من ترسانة ضخمة من الأسلحة، وخطوط إمداد تسمح له باستكمال النقص الذي تتعرّض له ما يتيح له الاستمرار أمداً طويلاً في الحرب، وبيئة جغرافية صعبة، وتجربة سابقة ناجحة عام 2006 في مواجهة إسرائيل، يضع الأخيرة أمام خياراتٍ أحلاها مرٌّ.
يجد المتابع للإعلام الإسرائيلي نفسَه بين أمرين يبدوان متناقضين؛ رغم أن الحقيقة قد تكون عكس ذلك، فمن ناحيةٍ، تكثر المقالات والتحليلات بشأن الحرب المتوقعة واستعداد الجيش الإسرائيلي لخوضها. ومن ناحيةٍ أخرى، التأكيد أن الآثار التي ستترتّب عليها قد تفوق طاقة تحمّل المجتمع الإسرائيلي، وهو أمرٌ يمكن تفسيره أنه محاولة للدفع نحو تجنّب نشوب هذه الحرب في هذا الوقت على الأقل. كان معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي نشر تقريرا، في 6 يونيو/ حزيران الحالي، قيم فيه القدرات العسكرية للحزب، بعنوان "قبل المواجهة الموسّعة في الشمال؟ هكذا تبدو ترسانة أسلحة حزب الله"، مقدّراً أن لدى الحزب أكثر من 150 ألف صاروخ وقذيفة، وهو عدد يفوق ما امتلكته حركتا حماس والجهاد الإسلامي عشية "طوفان الأقصى" بعشر مرّات، إضافة إلى امتلاكه صواريخ باليستية، وصواريخ طويلة وقصيرة المدى ذات قدرة على إصابة أهدافها بدقّة عالية، فضلاً عن تحسين أسلحته في مجال الجو عبر امتلاك مسيّرات هجومية واستخبارية. وقدّر التقرير أعداد الصواريخ التي يمكن أن تصل إلى تل أبيب وجنوبها بـ4500 صاروخ، و10500 صاروخ يصل مداها إلى الخضيرة جنوب حيفا، و67500 صاروخ تصل إلى منطقة حيفا، و75 ألف صاروخ ينحصر مداها في شمال فلسطين المحتلة.
يعرف الجميع، في إسرائيل وغيرها، أن الحرب ضد حزب الله لن تكون مثل غيرها، بل ولن تكون كحرب لبنان الثانية 2006
ويضع بعض العسكريين الإسرائيليين سيناريو متوقعاً للأضرار التي قد تلحق بإسرائيل لو اندلعت الحرب؛ فمن المتوقّع أن تواجه إسرائيل في الأسبوعين الأولين صعوبة في توفير خدمات الكهرباء والاتصالات، وربما خدمات المياه أيضاً، بشكل منتظم في المنطقة الشمالية الممتدّة من نهاريا حتى حدود حيفا. ويرى اللواء السابق في الجيش الإسرائيلي إسحاق بريك ذهاب إسرائيل إلى حرب كهذه كارثة حقيقية، ستتدمّر إثرها البنية التحتية من محطّات مياه وكهرباء ومرافق تخزين وقود وغاز ومصانع وغيرها. واعتبر بريك أن ما يحدُث حالياً في مستوطنات الشمال في ظل المواجهات المحدودة لن يكون شيئاً مقارنة بما قد يحدُث في حال اندلعت الحرب.
وتذكر تقديرات للجيش الصهيوني، تعود إلى ربيع 2022، استعداد الحزب، في حال اندلاع الحرب، لإطلاق آلاف الصواريخ يوميا في الأيام الأولى، ثم يستمر بمعدّل يومي يصل إلى 1500 صاروخ في بقية أيام الحرب. إلى جانب ذلك، سوف تسقط عشر صواريخ يومياً على الأقل في مناطق مأهولة في الشمال، وقد يصل عدد القتلى الإسرائيليين، في نهاية اليوم التاسع للحرب، إلى 300 جندي ومستوطن، فضلاً عن دمار أكثر من 80 مبنى في أنحاء متفرقة من البلاد. ويتحدّث رئيس جهاز الأمن القومي السابق اللواء احتياط يعقوب عميدرور عن أن اندلاع هذه الحرب سيضع إسرائيل في وضع صعب، لأن هذا الكم الهائل من الصواريخ اليومية ستصل إلى كل نقطة في جغرافيتها، فضلا عن عدم امتلاك إسرائيل إجابة جيدة عن كل أنظمة الأسلحة لدى الحزب ونوعها وكميتها. علاوة على أن نجاح القبّة الحديدية، حسب نائب رئيس وحدة الأبحاث السابق في المخابرات العسكرية العقيد احتياط رونين كوهين، "يرتبط بكم الصواريخ التي سيحافظ حزب الله على إطلاقها، وهي مسألة لم نواجه مثلها مطلقا".
لن يكون المجتمع الإسرائيلي في أغلبه، والذي تراجع تأييده كثيرا للحرب في غزّة، مؤهّلاً لخوض حرب ضد حزب الله، أو بالأحرى لا يريد لهذه الحرب أن تقع
غير أن المعرفة بقدرات حزب الله والآثار المتوقّعة للحرب على إسرائيل لا تجيب عن السؤال الأهم بشأن احتمالية اندلاع حرب موسّعة في الشمال، التي يقول محللون إسرائيليون كثيرون إن الجيش وحزب الله غير راغبين فيها. وهي رغبة يمكن أن تتلاشى فجأة أمام إدارة سياسية متطرّفة وخرقاء في إسرائيل، وقدرة على المغامرة المحسوبة من حزب الله. تدعم ذلك تقارير أشارت إلى تجنّب سيناريو الحرب الواسعة في مناسبتين؛ أولاهما ما أشارت إليه صحيفة وول ستريت جورنال من إقلاع للطائرات الحربية الإسرائيلية في 11 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي لشنّ حربٍ استباقية ضد حزب الله، غير أن الرئيس الأميركي هاتف نتنياهو حينها لوقف هذه العملية، ومن ثم عادت الطائرات إلى الهبوط. والأخرى ما تحدّث عنه خبراء إسرائيليون أن حزب الله، في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، كان يفكّر بالفعل في اقتحام شمال فلسطين المحتلة، غير أن خطوة "حماس" في 7 أكتوبر أربكت حساباته، وأفقدته عنصر المفاجأة، فاضطرّ لتجميد هذه العملية حينها.
تخوض إسرائيل صراعاً نفسياً عميقاً، بين رغبتها في استعادة الهيبة بعد الإحساس بالانكسار وفقدان الردع أمام المقاومتين، الفلسطينية واللبنانية، والخوف من تبعات الحرب في الشمال وتأثيراتها الكارثية المتوقّعة على المجتمع، علاوة على الفشل وعدم القدرة على تحقيق أهداف الحرب المستمرّة أكثر من ثمانية أشهر وإرهاق الجيش واستنزافه، والإحساس بأنه لا مفرّ من زيادة الضغط العسكري على حزب الله لإعادة سكّان الشمال إلى مستوطناتهم. وهو صراع يعكس كيف تهاوت الثقة في قدرة القيادة السياسية على اتخاذ القرارات الصائبة، وفي قدرة الجيش على تحقيق الانتصار، وفي جاهزيّة المجتمع لتحمّل أعباء الحرب. في هذا السياق، يقول نائب رئيس الحكومة الأسبق حاييم رامون "إن إسرائيل لا يمكنها فتح جبهة أخرى في الشمال، في ظل جبهةٍ مفتوحةٍ بالفعل في الجنوب، وهي عاجزةٌ فيها"، أما إسحاق بريك فتحدّث عن أن استنزاف الجيش ثمانية أشهر في غزّة، وعدم قدرته على البقاء فيها فترة طويلة، يدفعان إلى التساؤل عن إمكانية أن تشنّ إسرائيل حرباً جديدة على حزب الله في جنوب لبنان في مثل هذا الوضع.
تكثر المقالات والتحليلات في الإعلام الإسرائيلي بشأن الحرب المتوقّعة واستعداد الجيش الإسرائيلي لخوضها. ومن ناحيةٍ أخرى، التأكيد أن الآثار التي ستترتّب عليها قد تفوق طاقة تحمّل المجتمع الإسرائيلي
مؤكّد أن أسئلة كثيرة تتداعى إلى الذهن عن إمكانية اندلاع هذه الحرب، وحسابات كثيرة؛ ربما يكون أقلها أهمية إن كانت الإدارة الأميركية تريد اندلاع حرب كهذه في هذا الوقت، وهي تحاول وقف الحرب الدائرة في غزّة والتوصل إلى صفقة تبادل أسرى قبل الانتخابات الأميركية؟ أما الأسئلة الأكثر أهمية فتتعلق بالداخل الإسرائيلي ومدى استعداده لمواجهة تبعات الحرب واحتمالاتها من دمار وحركة نزوح داخلي واسعة، وهجرة عكسية إلى خارج فلسطين، وأضرار اقتصادية لا تمكن مقارنتها بنتائج الحرب في غزّة، ولا بحرب لبنان الثانية 2006. كما تتعلق بمدى جاهزية الجيش الذي يجمع الخبراء العسكريون الإسرائيليون، قبل غيرهم، على أنه يعاني من فشل متراكم على مستوى القيادة والضباط والجنود والتخطيط والجاهزية.
ما يظهر أن المجتمع الإسرائيلي في أغلبه، والذي تراجع تأييده كثيرا للحرب في غزّة، لن يكون مؤهّلاً لخوض حرب ضد حزب الله، أو بالأحرى لا يريد لهذه الحرب أن تقع أصلا، وهذا تعكسه كثرة الكتابات التي ترسم صورة مخيفة، وحقيقية في الأغلب، عن العواقب التي ستتحمّلها إسرائيل الدولة، والمجتمع والمشروع الصهيوني نفسه. وهي كتاباتٌ لا يمكن فهمها في سياق التعريف بقوة حزب الله، ولا في سياق إعداد المجتمع للحرب المحتملة، بل هي أقرب إلى تفهم في سياق صرف فكرة خوض إسرائيل هذه الحرب، حتى وإن كان قطاع عريض من المجتمع يفكر في ضرورتها من أجل استعادة الهيبة، وإعادة سكّان الشمال المهجّرين إلى مستوطناتهم. وهكذا تفهم تلك الأصوات في الحكومة الإسرائيلية، التي تطالب بتدمير حزب الله في حرب شاملة، على أنها تهديدات فارغة. لكن ذلك لا يعني استبعاد خيار "حرب لبنان الثالثة" كما يسمّيها الإسرائيليون، بل تأجيلها إلى عام 2026 على الأكثر حتى تصبح الظروف مؤاتية.