بين غزّة ولبنان... هل يستعيد الجيش الصهيوني الثقة؟
طغت سخونةُ الأحداث في الجنوب اللبناني خلال الأسبوعَين الماضيَين على اهتمام الجميع، وتراجعت غزّة من المشهد الإعلامي العربي وسط زحمة الأخبار، وأصبحت قضيتا تفكيك حركة حماس وتحرير الأسرى على هامش الاهتمامات في الإعلام الصهيوني، بعد عام من الحرب والقتل والتدمير، من دون أن تتمكن إسرائيل من تحقيق ما أعلنته من أهدافٍ منذ اليوم الأول للحرب؛ فلا هي استرجعت الأسرى، ولا فكّكت "حماس" أو جرّدتها من سلاحها.
لا يوجد توصيف لذلك سوى أنّه فشل للقيادتَين السياسية والعسكرية؛ إذ لا يقاس الانتصار في الحرب بحجم القتل والتدمير، بل بتحقيق الأهداف. وهذا المعنى لا يتحدّث به العرب وحدهم، ولا الخبراء العسكريون فحسب، بل كثيرٌ من الإسرائيليين أيضاً. ولطالما تحدّث سياسيون وعسكريون سابقون إسرائيليون عن هذا الفشل، بل وحتّى على المستوى الشعبي. فخلال الأيام الماضية نشر معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي استطلاع رأي عن الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول)، أُجري على عينة من ألف شخص، 800 منهم من اليهود (هم موضع تركيزنا)، و200 من عرب 1948، يقيس تقييم الجمهور تجاه "طوفان الأقصى"، وهو تقييم يكشف عدم رضا الإسرائيليين عن نتائج الحرب، ويُعبّر عن شعور واضح بخيبة الأمل تجاهها.
عكس تأثير "طوفان الأقصى" على المجتمع الإسرائيلي طوال عام الحرب الحالية إجماعاً على القلق بشأن تماسكه
حرص الاستطلاع على طرح أسئلة بشأن مستوى الثقة في مؤسّسات الدولة، أو في قيادات سياسية وعسكرية بعينها، وفي قدرة الجيش على التعلّم من دروس فشل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ومدى القناعة في تحقق أهداف الحرب في غزّة، وحالة المجتمع وتماسكه. وفي هذه جميعاً، والتركيز هنا على الإسرائيليين اليهود، كانت الإجابات تُؤكّد ما ذهبنا إليه. كان مستوى الثقة في مؤسّسات الدولة متدنّياً، فعبّر 57% فقط عن ثقتهم في سلاح الاستخبارات، وتدنّت الثقة تماماً في الحكومة (22%)، واستمر تراجع الثقة في الجيش (76%) مقارنة بالوضع الطبيعي قبل "طوفان الأقصى"، أمّا الأعلى ثقةً بين هذه المؤسّسات فكان سلاح الجو (79%).
على مستوى الأشخاص، سياسيين وعسكريين، كان الأمر أكثر وضوحاً، فكانت الثقة في رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو 30% فقط، وفي وزير الأمن يوآف غالانت 35%، أمّا رئيس الأركان، هرتسي هاليفي، فكان أكثر نيلاً للثقة (رغم تدنّيها) بنسبة 46%. بل إنّ هناك نسبة معتبرة (35%) تضع ثقتها في التقارير الصادرة على لسان المتحدّث باسم الجيش الصهيوني بين المتوسّطة والمتدنّية، ما يعني وجود درجات من الشكّ في بيانات الجيش. ويرتبط ذلك بأمر أكثر خطورةً، إذ لا تثق غالبية اليهود الإسرائيليين في قدرة الجيش على استخلاص الدروس المستفادة من أحداث 7 أكتوبر (2023). وقيّم 57% ثقتهم في ذلك بين متدنّية ومتدنّية جدّاً، في مقابل 34% فقط اعتبروها بين المرتفعة والمرتفعة جدّاً. يضاف إلى ذلك أنّ 43% رأوا أنّ أهداف الحرب لن تتحقّق مُطلقاً، أو تتحقّق بدرجة محدودة فحسب، في مقابل 48% اعتقدوا أنّها ستتحقّق كاملةً أو بدرجة كبيرة. وهذا يعني أنّ نسبةً كبيرةً توقّعت عدم القدرة على تحقيق الأهداف، وهي لا تقلّ كثيراً عن نسبة من اعتقدوا خلاف ذلك.
ومن الواضح أنّ تأثير "طوفان الأقصى" على المجتمع الإسرائيلي طوال عام الحرب الحالية عكس إجماعاً على القلق بشأن تماسكه. وطبقاً للاستطلاع، بات أغلب اليهود الإسرائيليين (73%) يشعرون بقلق بالغ أو كبير (قلق بالغ 46%، قلق كبير 27%) على وضع المجتمع الإسرائيلي في اليوم التالي للحرب، في مقابل 21% لديهم درجة قلق متوسّطة أو محدودة. وهو مُؤشّر بالغ الأهمية على أنّ الحرب أظهرت شروخاً كبيرةً في المجتمع، إلى درجة أنّ نسبة النصف تقريباً (46%) عبّروا عن أعلى درجات القلق. وهذا يعني أنّ طول أمد الحرب، وعدم تحقّق أهدافها، تركا جروحاً غائرةً في المجتمع الإسرائيلي، ظهرت في مناسبات كثيرة، في الانقسامات، وفي طريقة قمع المتظاهرين والتعامل العنيف معهم، وفي الشعور بإهمال سكّان الشمال والجنوب وتفضيل سكّان المركز والوسط في المدن الكبرى الغنية، وفي معاناة إسرائيل من مشكلات لجوء داخلية لم تعهدها طوال تاريخها، وفي مشاكلَ عائليةٍ في أوساط جنود وضبّاط الاحتياط، يضاف إلى ذلك كلّه مشكلات اجتماعية كثيرة ناتجة من التبعات الاقتصادية للحرب.
وقد أُجري هذا الاستطلاع قبل العمليات الإسرائيلية في الجنوب اللبناني خلال الأسبوعَين الماضيَين، وأخيرها اغتيال أمين عام حزب الله حسن نصر الله، ومن ثمّ فإنّ نتائج الاستطلاع (إن أجري الآن) ستختلف تماماً وفقاً للمزاج العام وحالة النشوة والاحتفال الناتجة من النجاحات الإسرائيلية في الجنوب اللبناني حتّى اللحظة. يعني ذلك أنّ المؤسّسات الإسرائيلية استطاعت في هذين الأسبوعين أن تستعيد في الشمال كثيراً من الثقة التي فقدتها خلال العام الماضي في الجنوب، بل والشعور بنشوة لم تتمكّن من الوصول إليها طوال عام كامل، وزادت غرور الإسرائيليين بقدرة جيشهم على إنجاز اجتياح بري سريع وناجح، يتوافق مع تسمية "ترتيب جديد"، التي أطلقها على عملية اغتيال زعيم حزب الله.
ومن الطبيعي أن يُقابل هذه الثقة الإسرائيلية، التي أنتجتها هذه العمليات التي تكلّلت في النهاية بهذا الاغتيال، شعورٌ بالشكّ والحيرة داخل حزب الله، شكّ تسبّبت فيه السياسة التي انتهجتها إيران سنوات طويلة، وليس حزب الله وحده في العام الماضي. فخلال الأعوام الماضية، جعلت إيران من سياستها في استيعاب الضربات نمطاً ثابتاً، حيث اعتادت الاحتفاظ بحقّ الردّ، سواء على الجرائم التي ارتُكِبت في حقّها من الولايات المتّحدة أو إسرائيل. فقد مرّت اغتيالات قاسم سليماني وإسماعيل هنيّة (الذي كان ضيفاً على إيران) وعدد من قادة الحرس الثوري الإيراني في قصف القنصلية الإيرانية في دمشق، ومن قبل ذلك اغتيال علماءَ إيرانيين في الداخل الإيراني يعملون في المشروع النووي الإيراني، وهو المشروع الذي دفعها لتجنب أيّ ردٍّ مُستحَقٍّ وطبيعيٍّ خوفاً من ضربه. بمعنى أنّ هذا المشروع الذي يُفترَض أن يكون عاملَ قوّةِ إيران، كان سبباً في ارتكابها أخطاءَ إستراتيجية، تكررت مع حزب الله في أكثر من مناسبة؛ حينما قُتِل عماد مُغنيّة في عام 2008، ثمّ في استهداف عديد من قادة الحزب في الأسابيع الماضية، علاوة على ضرب وسائلِ الاتصالات وإصابة المئات من كوادر الحزب، وظلّ حزب الله محتفظاً بنفس النمط المماثل تقريباً للإستراتيجية الإيرانية نفسها، وهذا كلّه شجّع إسرائيل وداعميها على التمادي.
ومن الواضح أنّ الأمور لم تعد مرتبطةً بتفكير إسرائيل في أن تفرض الولايات المتّحدة اتفاقاً سياسياً على حزب الله لفكّ ارتباطه بالمقاومة في غزّة، ولا بإغراء حزب الله لتوسيع النار لإعطاء الذريعة لإسرائيل للدخول برّياً إلى الجنوب اللبناني، مثلما ظنّ رونين برغمان في "يديعوت أحرونوت". فإسرائيل لا تحتاج أصلاً إلى ذريعةٍ لمواصلة جرائمها المستمرّة منذ 76 عاماً، في ظلّ الدعم الأميركي والأوروبي، كما أنّها لم تعد مُستعِدّة لمواصلة سياسة الاحتواء، وبالتالي فإنّها تبدو عازمةً على السير نحو الحرب البرّية. وهكذا تبدو إستراتيجية الداعمين لإسرائيل تحويل التهديد فرصةً، والسعي للتخلّص من مشاكل المنطقة، والتخلّص من تهديد حزب الله، بل، وربّما في المستقبل القريب، التحوّل إلى إيران نفسها ومشروعها النووي. ويرتبط تعطيل ذلك كلّه بمدى قدرة حزب الله على لملمة جراحه، ومسابقة الزمن لاستعادة التوازن، والتصعيد بالحدّ الأقصى، والاستعداد لحربٍ مفتوحةٍ لن يوقفها التزامه بالمسار نفسه.
يتقدّم نتنياهو استطلاعات رأيٍ إسرائيليةٍ مزاجيةٍ، قد تنقلب ضدّه لو شعر الإسرائيليون باتّساع رقعة التهديد
وإذا كانت الضربات التي تلقّاها حزب الله أخيراً تًلقي بحالة من الشكّ داخله، فإنّ ذلك لا يعني بالضرورة سهولة الحرب البرّية، وهنا تحديداً ينقسم العسكريون الإسرائيليون السابقون بين من يطالب بالتعجّل بالعمل البري واستغلال حالة الارتباك في حزب الله، ومن يُحذِّر من تكرار نفس الخطأ الذي ارتكبته إسرائيل مرّتَين في 1982 و2006، ووقوع الجيش في "فخّ الموت" المُجهَّز له، في ظلّ اختلاف الجغرافيا، وحجم القدرات التي يمتلكها الحزب. اللافت هنا أنّ ثمّة حالة ملحوظة من الهياج في إسرائيل قبل السياسيين، موالاة ومعارضة، تجاه توسيع الحرب في الجنوب اللبناني، بعد أن أغرتهم هذه العمليات، وشجّعهم دعم أميركي لا متناهٍ يصل إلى حدّ التخطيط والمشاركة في التنفيذ. وبالتالي لم يعد الهدف فكّ الارتباط بين حزب الله والمقاومة في القطاع، أو حتّى الاكتفاء بإعادة حوالي مائة ألف لاجئ إسرائيلي إلى المستوطنات في الشمال الفلسطيني المحتّل، بل ربّما إبعاد حزب الله إلى ما وراء الليطاني، وإعادة رسم المنطقة حسبما عبر نتنياهو.
وعلى الرغم من أنّ الحكم على مآلات هذه الأحداث، وإلى أيّ مدىً يمكن لحزب الله تجاوزها، يبدو مُبكّراً، فإنّ إستراتيجية نتنياهو نجحت في لفت أنظار المجتمع الإسرائيلي كاملاً إلى الشمال، وصرف اهتمامه تماماً (ولو مُؤقَّتاً) عن قضيتي تفكيك "حماس" والأسرى الإسرائيليين، وصار يتقدّم استطلاعات رأيٍ إسرائيلية مزاجيةٍ ومتقلِّبةٍ، قد تنقلب ضدّه من جديد لو شعر الإسرائيليون باتّساع رقعة التهديد.