لماذا تتحوّل الحملان إلى "ذئاب"؟
حسمت قاعدة اليمن مسؤوليتها عن الهجوم الذي نفّذه، الأسبوع الماضي، الشقيقان سعيد وشريف كواشي، على الصحيفة الفرنسية الساخرة "شارلي إيبدو"، فيما كان الرجل الثالث، أحمد كوليبالي، الذي احتجز يهوداً في متجر، يعلن، في اتصال مع قناة فرنسية، ولاءه لتنظيم الدولة الإسلامية، وتنسيقه مع الشقيقين كواشي!
هز حادث الصحيفة فرنسا، وقلبها رأساً على عقب (كما عنون تقرير لصحيفة نيويورك تايمز)، وهو وإن كان الأكثر تأثيراً وعنفاً ودلالة، إلاّ أنّه ليس فريداً أو استثنائياً، فقد سبقته حوادث أخرى في باريس، حين دهس سائق عدداً من المارة، بينما طعن آخر رجال شرطة وهو يصيح "الله أكبر". وتشير تقارير للشرطة إلى أن السائق يعاني من اضطراب نفسي، أي أنها حالة قريبة، من زوايا معينة، من نموذج هارون مؤنس، الذي احتجز رهائن في مقهى في سيدني بأستراليا، نهاية العام الماضي.
وكان مواطن كندي، يدعى مايكل زيهاف بيبو (32 عاماً)، قد هاجم مبنى البرلمان الكندي، وقتل جندياً قبل أن يتم القضاء عليه. وقبل ذلك بأيام، هاجم شخص آخر بسيارته جنديين كنديين. وكلا المهاجمين في العمليتين هم ممّن منعتهم السلطات الكندية من السفر، خشية الالتحاق بتنظيم الدولة الإسلامية.
هذه الأحداث وليدة التحوّل في استراتيجيات القاعدة، والسلفية الجهادية عموماً، من العمل المنظّم المخطط والمعقّد، كما الحال في تفجيرات "11 سبتمبر"، إلى العمل الفردي أو ما بات يعرف بظاهرة "الذئاب المنفردة"، وتزامنت مع ظهور الجيل الثالث من الجهاديين، بعد الحرب الأفغانية، مع تزايد الاعتماد على شبكة الإنترنت وارتفاع تأثير هذه الجماعات على الجاليات المسلمة في الغرب.
تمثلت النقلة النوعية، على هذا الصعيد، مع تأثير الدكتور أنور العولقي (قُتل بصاروخ طائرة أميركية في 2011)، والذي عاد إلى اليمن، بعدما عاش أغلب فترات عمره ودراسته وعمله في الولايات المتحدة الأميركية، ليصبح، لاحقاً، بمثابة المنظّر الأيديولوجي لقاعدة الجزيرة العربية، والأب الروحي للجيل الثالث الجديد، بتأثيره الملموس على الجاليات المسلمة في
الغرب، إذ تفيد التقارير بأنّه هو مَن كان قد جنّد نضال مالك (قتل أميركيين في قاعدة تكساس العسكرية)، وعمر الفاروق (حاول تفجير طائرة ركاب أميركية)، فيما قال أحد الشقيقين كواشي إنّه تأثر بالعولقي، عندما ذهب، قبل أعوام، إلى اليمن ودرس هناك. إلاّ أنّ الطفرة الكبرى جاءت مع تنظيم الدولة الإسلامية، إذ توافد مئات من الشباب الجهادي، وممّن تحولوا إلى الإسلام عبر بوابة تأثير السلفية الجهادية، إلى سورية والعراق، وحدث تزاوج غير مسبوق بين الخبرات والطاقات الجديدة من الغرب والأيديولوجية السلفية الجهادية، في أروقة هذا التنظيم وخطابه السياسي والإعلامي.
وبعد أن كان العولقي قد أسس أول مجلة باللغة الانجليزية للسلفيين الجهاديين، وهي الإلهام، طوّر تنظيم الدولة الخطاب الجهادي بالإنجليزية في إصدار مجلة دابق، الأكثر احترافاً إعلامياً، وأعد أشرطة مصورة بالانجليزية، وبدا واضحاً أنّ هنالك اهتماماً كبيراً بمخاطبة المقيمين في الغرب، بل ونجاحاً غير مسبوق في التأثير على نسبة كبيرة من الشباب والفتيان هناك.
بالطبع، اتخذت الدول والحكومات الغربية إجراءات غير مسبوقة في متابعة المتأثرين بهذا الخطاب ومراقبتهم، ومنعت محاولات عديدة للالتحاق بهذا التنظيم، وطوّرت الخطط والجهود في مراقبة الحدود والاتصالات، دولياً وإقليمياً. ومع ذلك، لا يمكن القول إنّها ستتمكن من مواجهة تحدّي "الذئاب المنفردة" الذي سهّل عملية التجنيد، وتنفيذ عمليات بسيطة، ليست معقدة، لكنها أكثر تأثيراً وخطورة على الأمن هناك.
الجهود الأمنية والدولية في مواجهة هذه الظاهرة، التي تزامنت مع الحرب الدولية على تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، توازت مع محاولات لتفسير ما يحدث، وتلك الجاذبية الكبيرة لهذا التنظيم، والسرّ في قدرته على التأثير على نسبة من الشباب، وتحويلهم من حملان تعيش حياة طبيعية في مجتمعاتها، إلى ذئاب منفردة، تسعى إلى القتل والانتحار، أو الهجرة إلى ظروف قاسية في الأراضي التي يسيطر عليها التنظيم!
كيف يمكن أن ينجح تنظيم يتبنى هذه الأيديولوجيا المتشددة، والأفكار المتوحشة، في التفوق على الإعلام الغربي والأجهزة الأمنية والثقافية والأكاديمية الكبرى هناك، بل وينقل الشباب أنفسهم، من حياة في مجتمعات متطورة في ذروة التكنولوجيا والتطور الاقتصادي، إلى ذلك النمط من التفكير والحياة المختلفة بالكلية؟
تعددت الإجابات الغربية والعربية التي نقرأها حول هذه الظاهرة؛ بعضها يحيل إلى الفراغ الروحي، وأخرى إلى أزمة الهوية لدى الجيل المسلم الجديد في المجتمعات الغربية، وأخرى إلى تأثير الانترنت، وهنالك من يبحث عن الظروف الاقتصادية ـ الاجتماعية في الغرب.
ما سبق قد يكون صحيحاً، جزئياً، وعلى الأغلب أننا أمام أسباب متنوعة ومتعددة ومركّبة، لكن العامل الأكثر حضوراً وأهمية، وتتجاهله تلك التحليلات أو تحجّم من أهميته، يتمثل في الشروط المنتجة للقاعدة نفسها، وللتيارات السلفية الجهادية وصيغتها الجديدة الأكثر راديكالية، المتمثلة في تنظيم الدولة الإسلامية، والمقصود، هنا، الأزمة الكبرى في المنطقة العربية، بما ينشأ عنها من شعور مزدوج بالظلم والتهميش والإقصاء وغياب العدالة، ناجم عن أزمة سياسية، ساهمت فيها الأنظمة السلطوية الفاسدة من جهة، والسياسات الغربية المتحالفة مع هذه الأنظمة، من جهةٍ أخرى!
ثمة فرق كبير بين التفسير والتبرير. لكن، في الوقت الذي ندين بشدة أي اعتداء على المدنيين، أو أي عمل إرهابي باسم الدين، فمن الضروري أن نغوص عميقاً في تفسير الظاهرة الجديدة، وأسبابها والوقوف على جوهرها، وربما هو ما بدأ الحديث عنه لدى فئة مهمة من الباحثين الغربيين والمثقفين العرب، فمن الضروري أن يتم الاهتمام بما يقوله مفكر فرنسي، من وزن فرنسوا بورجا، في تفسيره نمو هذه الجماعات، عندما يتحدث عن الأزمة السنية الكبرى وثلاثية الفشل، فلو لم تكن المنطقة العربية ساحة رهيبة لنمو هذا التيار وتلك الجماعات، لما نشأت على هامشها ظاهرة "الذئاب المنفردة" في الغرب، ولا قبلها أحداث الحادي عشر من سبتمبر.