لبنان: العيب عادياً
قد يكون أعنف ما في النظام الطائفي، كفرد أصيل في عائلة الأنظمة العنصرية القائمة على الدم والدين والقرابة والعشيرة، أنه يحوّل العيب إلى عادي، اللاأخلاقي إلى شهامة بنظر الرعية والراعي، والوضاعة إلى مصدر للفخر. أكيد أن سعد الحريري وفؤاد السنيورة وباقي أعضاء نادي رؤساء الحكومة السابقين في لبنان، ومعهم مفتي الجمهورية، شعروا بأنه عادي وأخلاقي جداً أن يتنطعوا للدفاع عن رئيس حكومة تصريف الأعمال حسّان دياب ضد الادعاء عليه في تفجير مرفأ بيروت، فقط لأنه ينتمي إلى الطائفة السنية، مع أنه خصمهم في السياسة إلى درجة العداء. الطائفية تعلن مجدّداً موت السياسة. ومن سلسلة ما هو عادي، كان طبيعياً جداً أن يرفض حسّان دياب الخضوع للاستجواب أمام القاضي يوم الاثنين. ثمّة من قال للرجل "فليذهب القضاء إلى الجحيم". ثمة من قال له إنه يملك الحصانة التي تعفيه من أي تحقيق: حصانة الطائفة. وكأنّ من يحظى بحماية حزب الله يحتاج إلى عنصر دعم إضافي. أمام هذا الواقع، لا جدوى من الثرثرة الدستورية التي يثيرها متذاكون وإعلامهم الرخيص في لبنان هذه الأيام حول مدى قانونية استدعاء وزراء ورئيس وزراء قبل رفع الحصانة عنهم، أو أيّ جهة يجب أن تستدعي حسان دياب، القضاء المدني العادي أو المجلس الخاص بمحاكمة الرؤساء؟ وكأن هذا هو الموضوع المهم أمام مأساة بوزن انفجار بيروت: شكلية الاستدعاء.
ليس شعار "كرامة الطائفة خط أحمر" في كل مرة تُطرَح محاسبة مسؤول عن تقصير أو فساد أو جريمة، حكراً على مذهب واحد في لبنان، بل مصدر اعتزاز تتشاركه كافة المرجعيات السياسية والدينية في هذا البلد، مهما صغر حجم الطائفة أو كبر. صحيح أن ردة فعل طوائف معينة حيال الاقتراب من هذه "الكرامة" تختلف في درجة دمويتها، إلا أن الاختلاف ذاك ناتج حصراً عن اختلال في درجات القوة، ولا يعبّر عن وجود طوائف سلمية وأخرى دموية، على وزن أسطورة "الطوائف الوطنية" و"الطوائف الطائفية" زمن الحرب الأهلية.
لا شك في أن القاضي اللبناني فادي صوان، صاحب الاستدعاء، يدرك تماماً قوانين الطوائف و"كراماتها" في لبنان، ولذلك ربما ارتأى توزيع صفة الادعاء على 4 شخصيات، تمثل الطوائف الرئيسية الثلاث: السنية والمارونية والشيعية، ممثلة بحسان دياب والوزراء يوسف فنيانوس وعلي حسن خليل وغازي زعيتر. لكن المساواة الطائفية في الاستدعاء لم تجدِ نفعاً، فاتحد القطيع داخل مجلس الوزراء وخارجه حول الرمز الرئيسي للمتهمين الأربعة، حسان دياب، على اعتبار أن الثلاثة الآخرين هامشيون في طوائفهم، وكأن حسّان دياب له وزن تمثيلي بين سنّة لبنان الذين تسابقوا على ذمّه والتنصل من "سنيّته" يوم سماه حزب الله رئيساً لحكومته.
سارع حزب الله إلى التكشير عن أنيابه الكثيرة كالعادة: حسّان دياب خط أحمر، مع أن نميمة الصالونات السياسية في لبنان توحي بأن ميشال عون يقف شخصياً خلف قرار الادعاء على دياب والآخرين، في محاولة لتبرئة نفسه من حقيقة أنه "كان يعلم". دافع حزب الله بحدة عن حسان دياب فقط لأن الأخير هو الصورة المثالية للرئيس الكرتوني السنّي للحكومة التي يريدها حزب الله واجهةً لسلطته المطلقة. لو وُجه الادعاء إلى سعد الحريري مثلاً، لكانت ارتفعت صور فادي صوان في مناطق حزب الله احتفالا بأوامر مباشرة منه مثلما علت صور سليم عياش، قاتل رفيق الحريري. أما ضحايا انفجار بيروت، فهؤلاء لا كرامات لهم بالنسبة لمافيا الطوائف.
يحلو لأعداء النظام الطائفي في لبنان أن يحقنوا أنفسهم، من وقت إلى آخر، بمعنويات كاذبة أو مضللة في أقل تقدير، فيتبادلون التهاني بأن النظام وصل إلى ذروة أزماته، مثلما تنص مطالع بيانات الحزب الشيوعي اللبناني الآتية من عصر آخر. الحقيقة أن لا النظام في أزمة ولا من يحزنون. لو كان كذلك بالفعل، لما تجرّأ أركانه على التعاطي بهذا المنسوب من الوقاحة الطائفية مع قضية استدعاء حسّان دياب والآخرين إلى التحقيق. لو كان النظام الطائفي في أزمة، لكان قدّم أضاحي سمينة من أجل إنقاذ نفسه.