عيّنة لبنانية عن تحوّلات منطقة
تكذب إسرائيل كثيراً عندما تقول إن كل غاراتها في لبنان تصيب أهدافاً حربية، وهي تصدُق حين تجاهر بأنها تقتل مائة مدني إن كان بينهم مسلح واحد أو مشتبه في تسلحه في مبنى أو مدرسة أو مستشفى أو دار عبادة، وهو ما لا يواجَه باعتراض جدّي في عواصم العالم الكبرى، لا في بكين ونيودلهي وموسكو، ولا في واشنطن ولندن وباريس. بدأت إسرائيل حربها حصراً على الطائفة الشيعية في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت، بوصفها "بيئة حاضنة" لحزب الله، وهي نظرة عنصرية معادية لليبرالية التي تدّعيها إسرائيل عن نفسها، لأنها تتعامل مع البشر كقطعانٍ لا كأفراد، وهي فرضية دموية تجعل مليوناً ونصف مليون شخص أهدافاً لآلة القتل، هذا بغضّ النظر عما يحمله تعميم "البيئة الحاضنة" مع أل التعريف من خلط مضلِّل ما بين كره إسرائيل وتأييد حزب الله. حمل حصر القتل بالمواطنين الشيعة في طياته حلم إثارة اشتباك أهلي طائفي يقصّر طريق الوصول إلى أهداف إسرائيل من الحرب، قضاءً على حزب الله واحتلالاً لأراض لبنانية شاسعة وإبعاد فئة وازنة من شيعة الجنوب عن الحدود. لكن الاستجابة الإنسانية والوطنية في الأيام الأولى للقصف المكثف بدت معقولة للمناطق ذات الغالبية الطائفيّة غير الشيعية في استضافة المهجرين الشيعة، وهو ما لم تكن إسرائيل ترغب بمشاهدته. سريعاً راحت توسّع دائرة القصف إلى مناطق شيعية، لكن داخل محيط مسيحي أو سنّي أو درزي، مع قصف قرية المعيصرة بدايةً في كسروان (شمال شرقي بيروت)، الشيعية وسط المنطقة المارونية المعروفة في لبنان، لتكرّ السبحة مع قصف أحياء بيروتية ثم شوفية وشمالية ذات أغلبيات سنية ودرزية ومسيحية احتضنت ولا تزال آلاف المهجرين الشيعة. ولأن الحروب (مثل الأوبئة والكوارث الطبيعية والمجاعات)، تُخرج من البشر أسوأ ما فيهم سعياً إلى نجاة كل فرد بحياته، ولو دوساً على كل "آخر"، فإنّ التهديد الإسرائيلي غير المعلن باستهداف كل المناطق التي تستضيف مهجرين، بحجة أن مسلحين أو مسؤولين من حزب الله قد يتخفون بينهم، أعطى نتيجة فورية. وفي بلد كلبنان، علاقات طوائفه لا شيء سليماً فيها، راحت تتضخم ظاهرة رفض استقبال النازحين من أبناء الطائفة المستهدفة.
والحال أن التداعيات المستقبلية لتلك الظاهرة قد تضاهي، في خطرها، كل بقية الكوارث التي نجمت وستنجم عن هذه الحرب بغض النظر عن شكل نهايتها أو موعده الذي لا يُرجح أن يكون قريباً. ففي لبنان اليوم الغالبية الساحقة من المواطنين الشيعة مهجّرون من قراهم وبلداتهم، وعددهم يزيد عن المليون، وإقامتهم بعيداً عن ديارهم بصفتهم نازحين ستطول. حصل أمر كهذا في كافة الحروب على لبنان منذ اجتياح 1978، ولكن لا شيء يقارن بما يحدث اليوم. لم يسبق أن هجّرت إسرائيل هذا العدد من البشر في هذه الفترة القصيرة (ثلاثة أسابيع تقريباً)، ولم يحصل أن دمّرت مناطق سكنية بهذا المقدار الذي يبيّت، كما هو الحال في غزّة، نيّة جعل محافظات وأقضية كاملة غير صالحة للسكن إما لاحتلالها بشكل دائم أو لجعلها مناطق خالية من البشر وحدوداً طبيعية جديدة لإسرائيل. وإن كان التهجير الأول (1978) لجنوب لبنان قد أنشأ تحولاً سياسياً جغرافياً ديمغرافياً هائلاً اسمه الضاحية الجنوبية لبيروت، وقد أمست هذه التسمية سياسية ــ طائفية حلّت مكان الاسم الإداري لـ"ساحل المتن الجنوبي"، وقد نتج عنها الشيء الكثير من معادلات حكم هذا البلد وعلاقات جماعاته خلال الحرب الأهلية وما تلاها، فإنّ ما قد ينتج عن الحرب الحالية قد يكون أكبر بما لا يُقارَن مع ما تلا "عملية الليطاني" 1978.
قد تكون هذه عيّنة عن صورة كبرى لمنطقة مقبلة على تغييرات دراماتيكية جغرافياً وديمغرافياً وسياسياً. نبيّ من يستطيع تصوّر معالمها وشكلها وتوزّع مصادر النفوذ فيها، لكن المؤكد أنها ليست بتلك الخريطة التي تعد بأيّ خير لسكانها، من دون أن يعني ذلك أن النسخة الحالية من هذه البقعة الجغرافية، والتي قد يُقرن غداً ذكرها بصفة "سابقة"، قد وفّرت أي إغراء للإقامة فيها.