تفكير في غدٍ لبناني قاتم
لا حاجة إلى علماء اجتماع ونفس وسياسة، ولا إلى جغرافيين ومؤرّخين، لتقدير فداحة ما تؤسس له الحرب الإسرائيلية على لبنان من أعطاب دائمة اجتماعياً وسياسياً وجغرافياً وطائفياً ووطنياً، حتى لو توقفت الحرب قريباً، وهو أمر مستبعد. الدمار الهائل والخسائر المالية والاقتصادية الناتجة عن الحرب قد تكون أصغر الكوارث لدى استحضار احتمالات سوداء إلى نقاش شكل البلد في المديين المتوسط والبعيد وعلاقات مواطنيه وطوائفه ومناطقه ولحمته ونسيجه. والحال أن ما يحسم باتجاه استحالة الشفاء اللبناني أو صعوبته أو إمكانيته يبقى مرهوناً بكيف تنتهي الحرب: عودةً إلى زمن ما قبل عام 2000 أي ببقاء قوات الاحتلال في الجنوب وربما في البقاع الغربي وتوسيع المنطقة التي تريدها إسرائيل خالية، لا من حزب الله فحسب، بل من السكان الشيعة عموماً. أو إحياءً لذكريات صيف 1982، أي بوصول القوات الغازية إلى بيروت في حال فوز دونالد ترامب مثلاً وتشكيله ثنائياً قاتلاً مع بنيامين نتنياهو. أو بسيناريو 2006، انسحاباً إسرائيلياً بموجب اتفاق سياسي ستكون هوية الرئيس الأميركي الـ47 وفريق عمله حاسمة في التوصل إليه من عدمه.
الاحتمال الأخير هو الأقل سوءاً، وإن كان الأضعف، ذلك أن الظرف الإسرائيلي الشعبي والعسكري والسياسي، حماسةً لاحتلال لبنان، ونجاحاً في ضرب البنية القيادية لحزب الله، وإحياءً لخرافات دينية تنسب ستة بلدان عربية إلى أرض إسرائيل، والوضع الأميركي الذي يتيح للدولة العبرية المجال لتحقيق نجاح بعد آخر في ضرب المحور الإيراني وأعداء مشتركين، والهزال الذي يبدو عليه محور طهران في المنطقة، ورفض مليشيات ذلك المحور الإقرار بالواقع وإصرارها على أخذ بلدانها معها إلى الانتحار، جميعها تجعل العثور عن سببٍ مقنع واحد لكي يوقف بنيامين نتنياهو والمهاويس الدينيون معه حروبهم، مهمّة عسيرة. لكن فلنحلم بأنّ الحرب ستنتهي مثلما انتهت حرب تموز 2006، وانسحبت القوات الإسرائيلية إلى ما وراء الخط الأزرق. فلنتفاءل ولنفكر في الشكل المحتمل لعلاقات الطوائف اللبنانية في اليوم التالي للحرب. زائر لبنان العارف حساسياته الطائفية والمناطقية والسياسية، يدرك أن كارثة تهجير مليون ونصف المليون من المواطنين الشيعة (عدد من سافر منهم إلى الخارج غير محدّد بدقة) لا تزال مضبوطة شعبياً بأقل الأضرار لحسن الحظ لا بل أنها تُدار بوعي لم يكن كثر يتوقعونه. يُقال إن أقل من مائة إشكال فقط حصلت حتى الآن في مناطق وفد إليها مهجرون، وهو رقم جيد جداً قياساً إلى حجم الحدث وإلى خصوصية الحالة اللبنانية. لكن الزائر إياه يدرك أن هذا التضامن الإنساني والوطني مهدد بوضع اقتصادي متدهور وتزيده الحرب ومرور الأيام تدهوراً، وبنجاح الخطة الإسرائيلية في مفاقمة التوجس المتبادل والمزمن ما بين اللبنانيين، وهما ما يضاف إليهما إدراك المهجَّر والمقيم أن لا أفق زمنياً منظوراً لعودة سكان الجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت والبقاع إلى مناطقهم، زِد على كل ذلك تاريخاً من سلوك داخلي لحزب الله يُخشى أن يكون قد سبّب أضراراً طويلة الأمد على المواطنين الشيعة سواء أكانوا مناصرين له أم معارضين.
العبارة الأكثر انتشاراً هذه الأيام في الأحاديث السياسية اللبنانية، هي نهاية الشيعية السياسية، وكيف أنها تلي نهاية المارونية السياسية نتيجة الحرب الأهلية وقبلها اغتيال رمزها بشير الجميل، ثم نهاية السنية السياسية بقتل ممثلها رفيق الحريري. نهايات جميع العهود الطائفية السياسية كان يجب أن تبعث غبطة على اعتبار أنها قد تغلق باباً من أبواب الاستقواء الذي تتبادله الطوائف دوريّاً. لكن في لبنان، الغلبة الطائفية تُنتج كوارث أهلية، ونهاية تلك الغلبة غالباً ما لا تملأ الدولة فراغها، وفي معظم الأحيان سرعان ما يحلّ محلها استقواء آخر لا يشرّع إلا أبواب الهجرة لترك المنتصرين يحتفلون بانتصاراتهم فوق الأشلاء.