لا لتسويق الأوهام
رغم أن الحزب الديمقراطي لا يختلف عن الحزب الجمهوري في دعم الكيان الصهيوني وطمس الحقوق الفلسطينية الثابتة والشرعية، فضّل بعضنا وصول المرشّحة الديمقراطية كامالا هاريس بدلاً من (الجمهوري) دونالد ترامب، بحكم أن هاريس مدركةٌ أن ما يحصل في غزّة إبادة علنية لجزء من الشعب الفلسطيني. لقد صرّحت بذلك أمام الجميع في ظرف فوجئت به، ولم تخطّط لكيفية التعامل معه. رغم ذلك، فاز ترامب، وعاد إلى البيت الأبيض ليكمل ما سُمّيت "صفقة القرن"، الذي بدأ تنفيذه خلال دورته الرئاسية السابقة. هذا المشروع الذي لا يكتفي بتمكين إسرائيل من القدس بتاريخها كلّه، وبرمزيتها الدينية، وإنّما يضع تحت تصرّفها (إسرائيل) 60% من الضفة الغربية. وبما أن غزّة تحوّلت أشبه بالخرابة، فحتى لو افترضنا أن ترامب سيقرّر الإسراع في وقف الحرب، فإنه سيضع شروطاً رهيبةً تحوّل غزّة مدينةً من دون سلاح، أي من دون مقاومة، تحت الهيمنة الإسرائيلية عسكرياً واقتصادياً، لا يدخلها طعام ولا دواء، إلّا بمقدار.
لا بدّ من الإقرار بأن الرياح تجري ضدّ مصلحة الشعب الفلسطيني، الذي تتراجع حظوظه في إقامة دولة في أرضه. فعودة ترامب إلى الحكم خبر سيّئ بجميع المقاييس، وذلك بالرغم من الإنجازات كلّها التي تحقّقت خلال السنة الماضية (استعرضها كاتب هذه السطور في مقالات سابقة). المؤكّد أن التوصّل إلى قرار يقضي بوقف الحرب من شأنه أن يضع حدّاً للمجازر اليومية التي ترتكب في حقّ المدنيين، ويمنح الغزّيين فرصةَ دفن شهدائهم، وإطعام أبنائهم بما سيتوفر من مساعدات، ومعالجة جرحاهم، والعودة الى أحيائهم لترميم ما تبقّى من بيوتهم. لكنّ السؤال الأصعب: ما هو المقابل السياسي الذي سيحاول ترامب أن يفرضه عليهم حتى يُرضي الثعبان الإسرائيلي الذي لا يشبع؟... تؤكّد أستاذة العلوم السياسية في جامعة هاورد الأميركية أن ترامب "لن يدعم حلّ الدولتين، بل سيسعى إلى واقع تسيطر فيه إسرائيل على جميع الأراضي الفلسطينية المحتلّة"، وهي تتوقّع أسوأ من ذلك حين اعتبرت أنه "لن يسعى إلى وقف الإبادة الجماعية، ولن يضغط على إسرائيل لإنهاء عملياتها العسكرية في لبنان، إلّا بعد تحقيق أهدافها في المنطقة".
عربياً، لا يوجد أمل في تغيير المشهد الراهن إقليمياً ودولياً، فقطار التطبيع يسير وفق خطىً ثابتةٍ، وستنضمّ إليه دولٌ عربيةٌ وازنةٌ، سواء برغبتها أو تحت الإكراه، فشخصية ترامب تجعل منه رئيساً قادراً على تجاوز الخطوط الحمراء كلّها التي توافقت عليها الدول. ومن يعتقد أن الرجل سيقدّم خدمةً مجّانية للفلسطينيين وللعرب سيكون واهماً، فعلاقته بالدوائر الصهيونية أكثر وثوقاً من علاقة جو بايدن الذي سبق أن اعترف بأنه "صهيونيّ". ولم يخطئ نتنياهو عندما بقي يراوغ الإدارة الديمقراطية لتوقّعه ربحاً أكثر مع إدارة جمهورية بقيادة ترامب، مدعوماً من المليارديرة ميريام أديلسون، التي أنفقت مائة مليون دولار في الحملة، فهي تعتبر إمبراطورة القمار في أميركا، إلى جانب أنها ناجية من "الهولوكوست"، وجندية سابقة في جيش الاحتلال، وتفتخر بأن زوجها يشبه كثيراً تيودور هرتزل، المؤسّس الحقيقي لدولة اليهود، الذي نظّم أول مؤتمر صهيوني في بازل بسويسرا عام 1897. فماذا ننتظر من رئيس تلتفّ حوله شخصيات من هذا الطراز.
تدلّ المؤشّرات كلّها على أن معركة المقاومة الفلسطينية ضدّ إسرائيل والولايات المتحدة مرشّحة لكي تستمرّ من دون هوادة، إلى أن يتغيّر ميزان القوى وتتراكم المؤشّرات الإيجابية. لا ندري الأسباب التي دفعت جزءاً مهماً من العرب والمسلمين في أميركا إلى منح أصواتهم لترامب، وهو ما عزّز من حظوظه في النجاح، وجعله يوجّه شكره وامتنانه إليهم، لكن المصالح والتوجّهات الاستراتيجية تبقى فوق كلّ اعتبار، فجميع الحقوقيين والديمقراطيين في العالم يُجمعون على القول إن القيم الإنسانية والأخلاقية الكونية تلقّت بنجاح ترامب ضربةً أخرى في سياق صعود اليمين المُتطرّف. الشعبوية تكتسح في مرحلة تاريخية تشهد رِدّةً أخلاقية وقانونية كُبرى.