الإعلام الحر في تونس مهدّد بالانقراض
لم تعد الصحف المستقلة، وبخاصة ذات المحتوى النقدي، قادرة على الاستمرار. ويأتي قرار الساهرين على صحيفة "الشارع المغاربي" بإيقافها عن الصدور، ليؤكد عمق الأزمة التي يمر بها قطاع الإعلام في تونس. ولا تعود الأزمة إلى الفترة الراهنة، فهي قديمة ومتعدّدة الأسباب والعلل، لكن المؤكّد أن الأزمة تفاقمت واحتدّت، حتى بلغت درجة عالية من الخطورة التي ستفضي في النهاية إلى اندثار الإعلام الحر والمتعدّد في اتجاهاته وأقلامه والأطراف المشاركة فيه، فتوقف هذه الصحيفة ليس سوى البداية، حيث تعاني صحيفة "المغرب" من التحدّيات والعوائق نفسها، وتواجه الصعوبات المالية والسياسية نفسها، وهي تعدّ صحيفة النخبة بامتياز، نظراً إلى التزامها الحرية ودفاعها عن الديمقراطية وانفتاحها على الجميع.
عاد العمل الصحافي ليصبح مهنة غير مستقرّة، يمكن أن تعرّض صاحبها للملاحقة القانونية والقضائية، وتجعل حياته العائلية بالخصوص معقّدة ومليئة بالمخاوف والهواجس. يواجه صحافيون تونسيون حالياً غول البطالة، وكثير منهم يبحث، بكل الطرق، عن فرصة عمل خارج تونس، بحثاً عن الشعور بالاستقرار والأمان، فالصحافي الذي يحترم نفسه، وغير المستعد ليخون قناعاته، ولا يرضى أن يكون مجرّد كاتب تافه، تراه حريصاً على استقلاليته وحماية كرامته ومصداقيته لدى قرّائه. لهذا، كان الصحافيون من أكثر الشرائح في المجتمع الذين رحبوا بالثورة، واستفادوا منها نظراً إلى ما وفرته لهم من فرص لأداء مهمّتهم بعيداً عن ضغوط السلطة ومصالح المسؤولين في الدولة. وعندما تضيق الحرّيات، وتعود القيود، سيكون هؤلاء من بين الأطراف التي ستدفع ثمناً باهظاً نتيجة تغير المناخ واضطراب قواعد المهنة.
كل مؤسسة إعلامية في حاجة إلى رأس مال لتتمكّن من القيام بوظائفها وأداء رسالتها على أفضل وجه. دون تمويل مريح، يصعب الحديث عن إعلام موفق. لهذا، يعتبر العثور على مصادر التمويل خطوة مهمة، لتحويل الرغبة إلى فعل منجز. ولكن رأس المال جبان، كما قيل، وصاحبه معذور في ذلك. هو ليس شخصية انتحارية حتى يجازف بثروته ومصالحه في حال عدم استعداد السلطة للقبول بالرأي المخالف، فمن شروط الديمقراطية، من شروطها هي ونجاحها في أي بلد، انخراط صاحب القرار في إيجاد ديناميكية سياسية تعطي فرصة لذوي الرأي المخالف، وتمكّنهم من فضاء مفتوح وسقف مرتفع للتعبير بحرية. عندها يتشجّع كل مستثمر على دعم وسائل الإعلام المستقلة، ويعمل على تنميتها وحمايتها. وإن انقلبت الموازين، وشعر صاحب المال بأن صاحب السلطة غاضبٌ أو خائف، يُصاب بالذعر، ويحمي نفسه بإيقاف الدعم لهذه الصحيفة أو تلك، قبل أن تقتحم مصلحة الضرائب مكتبه، أو يتلقى دعوات إلى المثول أمام القضاء لمواجهة تهم خطيرة ومصير بائس.
أشارت رئيسة تحرير صحيفة الشارع المغاربي، كوثر زنطور، إلى أهمية المال في الوصول إلى هذه النهاية المؤسفة. لقد "اصطدمت الصحيفة بصعوبة متناهية لتحقيق رهان الاستمراريّة بسبب عدم توافر شروطها الموضوعيّة، وأهمّها السند الإشهاري الذي حُرمَته الصحيفة، ومردّ ذلك توجّس أصحاب المؤسّسات الكبرى من زجّ مصالحهم في صحيفة توسَمُ بـ"المعارضة"، وتُعرف بأنّها مغايرة للسائد في كل أقسامها السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة. وبذلك استحال تأمين الاستقرار المادي للفريق العامل بها".
الخلاصة، أنّ تونس مُقدمة على حقبة جديدة تفتقر إلى الإعلام الحرّ والتعدّدي. لا نعتقد أن ذلك سيكون في مصلحة السلطة. لأن حرية الصحافة بمثابة المجهر الذي يكشف للسائق مطبّات الطريق ومنحدراته الخطيرة. ففي غياب إعلام نزيه وجريء وموضوعي تسود الأحادية، ويعمّ النفاق، وتكثر المغالطات، وتغيب الحقائق، ويختلط الحابل بالنابل، وتتراكم أخطاء المسؤولين بأحجامها المختلفة. وليس من شأن ذلك أن يخدم تونس والتونسيين في هذا المنعرج الذي تمر به البلاد.
لا تزال هناك فرصة لتغيير الاتجاه. لم ينزل بعد الستار الحديدي. الذين يدفعون في اتجاه غلق المنافذ والتخلص من كل إعلام معارض وناقد غير مدركين خطورة ما يفعلون، لأنهم سيندمون على ذلك، عندما يتحوّلون إلى ضحايا.