قيس سعيّد وفرماجو .. أزمتان في تونس والصومال
"إذا عرف السبب بطل العجب"، لكن العجب ما زال غامضاً، بشأن شخصيتي رئيسين انتخبا ديمقراطيا، وأعقب انتخابهما خروج جماهير في تونس الخضراء وفي أنحاء الصومال، فرحاً، وهناك من اعتبر انتخابهما بداية خلاص لأزمات شعبين، وفي مقدمتها البطالة والفساد. ولكن ما جرى أن كلا منهما، الرئيس الصومالي محمد عبدالله فرماجو المنتهية ولايته (فبراير/ شباط 2021) والتونسي قيس سعيد، تحولا إلى مهرّجيْن في السياسة وأيقونات كاريكاتيرية تثير الجدل والسخرية والريبة، فالوعود الشعبوية التي روجَّاها في حملتيهما الانتخابيتين، أن الشعب هو جوهر برامجهما وتمكينه من الحياة بعيش رغد وهناء وسلام، سرعان ما تحولت إلى سراب حسبه الشعبان بداية عهد جديد، فأستاذ القانون الدستوري ينتهك الدستور ويبطش بالقوانين، وما زالت أبواب انتهاكاته بالديمقراطية التونسية الناشئة مشرَّعة، من دون أن يكلّ أو يمل في إصدار قوانين جديدة للاستئثار بثمار ثورة الياسمين، ليضع وحده مستقبلاً خريطة للتفرد بالسلطة وعلى مقاسه. أما فرماجو الذي انتخب في تصويت ديمقراطي عام 2017، بحضور مراقبين دوليين، وتوسط بين رئيسين صوماليين، لترسم هذه الصورة نموذجاً سلمياً للتداول في الحكم بعد عقود من انهيار نظام دكتاتوري سلطوي، فإن محاولاته للعودة إلى الحكم بعد انتهاء فترته أعمته ظروف الصومال الأمنية والاقتصادية، البلد الذي ما زال تحت وصاية دولية أممية وأفريقية وغربية، بوجود آلاف الجنود الأفارقة (22 ألف عسكري) وفرق عسكرية غربية أميركية وبريطانية وإيطالية، في طول البلاد وعرضها، ولا مجال لاختطاف السلطة أو اغتصابها تحت أي ظرف. وعلى الرغم من ذلك كله، ما زال يبذل كل ما من شأنه أن يعود إلى القصر الرئاسي، وجديدها نشر مدرعات عسكرية وجنوداً في محيط مقر الحكومة الفيدرالية، وهو ما اعتبره رئيس حكومته، محمد حسين روبلي، محاولة انقلاب على الشرعية وعرقلة مسار الانتخابات، وهو ما دفع واشنطن ولندن إلى إعلان تأييدهما قرارات رئيس الحكومة الصومالية في الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول)، وتوجيه تحذيرات لمن يعرقلون مسار الانتخابات في البلاد، ما قد يفسر تهديداً ضمنياً للرئيس فرماجو، لعدم التدخل في عملية تنظيم الانتخابات، لكن الرئيس يأبى أن يكبح جماح سياساته الاستفزازية، ويترك ملف الانتخابات لرئيس الوزراء الذي تسلم منه هذا الملف في إبريل/ نيسان الماضي.
استخدم كل من الرئيسين، الصومالي والتونسي، شعار مكافحة الفساد في أجهزة الدولة والمؤسسات الرسمية مطيةً للوصول إلى قصري مقديشو وقرطاج
اللافت أن كلاً من الرئيسين، الصومالي والتونسي، استخدما شعار مكافحة الفساد في أجهزة الدولة والمؤسسات الرسمية مطيةً للوصول إلى قصري مقديشو وقرطاج، لكن تلك الشعارات الفارغة المضمون لم تترجم إلى ما يمكن تلمسّه في الواقع، وهو ما كان نوعا من البروباغندا، من أجل الوصول إلى رئاسة الحكم، كما أن تخوين المعارضة هو السمة الأبرز التي انتهجاها في مقارعة خصومهما من الداخل والخارج، وترسيخ فكرة وجود "نظرية المؤامرة" بتلقي دعم خارجي يسخّر للنيل من الدولة، لذرّ الرماد في عيون السواد الأعظم من الأنصار والمؤيدين. ولكن مع تكرار استخدام بطاقات التخوين وتأطير المؤامرة في خطاباتهما السياسية في وجه كل صيحة داعية إلى مواجهة بطش النظام وفساده، تفقد تلك النوعية من الشعبوية الانتهازية رواجها وتأثيرها في الوسطين، السياسي والاجتماعي، وتتجسّد الشعبوية في الديمقراطية الوليدة في الدولتين (الصومال وتونس)، مع بروز خطاباتٍ تمجّدها أمام النخبة السياسية وضد أنظمة منتخبة ديمقراطياً كالبرلمان، حيث حشد كل من قيس سعيد الجيوب العسكرية أمام مقر البرلمان، أو تنصيب عبدالله فرماجو رئاسة البرلمان في الصومال لرجل مؤيد وقريب من الرئيس المنتهية ولايته، بحجّة أن البرلمان مختطف لحفنة من الفاسدين في النموذج التونسي، أو لتمرير مشاريع وقوانين في البرلمان الصومالي، خدمةً لمصلحة الرئيس وحاشيته، بقدر ما هي سياسات وطنية قومية، في ظل انتشار الفقر وتراجع عوائد الدولة التونسية من السياحة وارتفاع معدل البطالة. والاقتصاد الصومالي يئن تحت وطأة تداعيات جائحة كورونا، ومع ارتفاع التضخم والبطالة (75%)، وتزايد أعداد المتضرّرين من أزمات القحط والجفاف في الجنوب، ما يفوق حجم المساعدات الإغاثية المرصودة في مقابل الجوعى البالغ عددهم نحو سبعة مليون شخص.
الخطر الحقيقي في المشهد الصومالي إذا استمر الوضع على ما هو عليه، ولم يتنازل الرئيس المنتهية ولايته من أجل مصلحة البلد، ولا يغادر الحكم، وهو ما قد ينشئ صداماً أمنياً جديداً في البلاد، ويعيد الأذهان إلى سيناريو الحرب الأهلية في تسعينيات القرن الماضي، فبعد مرور ثلاثة عقود، تلوح المعارضة السياسية (اتحاد المرشحين للانتخابات الرئاسية) بعسكرة المشهد واللجوء إلى خيار الحرب، من أجل إطاحة الرئيس فرماجو الذي كانت مقديشو قد خرجت عن بكرة أبيها لاستقباله، وتكاد أن تتحول اليوم إلى خنادق ومستنقعات للبارود، فسياسة إما أنا أو الهولوكست نذير شؤم لسكان العاصمة التواقين إلى أمن مستتب بعد سنين عجاف، عاشوا تحت ويلات الحرب والدمار والخراب، فإذا لم يُنتخب رئيس جديد في مارس/ آذار المقبل، فإن الدعم الخارجي الذي تتنفس منه رئة الدولة في صرف رواتب الجنود والموظفين سيتوقف، وهو ما سيدخل البلاد في أزمة اقتصادية جديدة. وتتجه كل الأنظار نحو المؤتمر التشاوري بشأن الانتخابات المنعقد في مقديشو منذ 3 يناير/ كانون الثاني الجاري بين الشركاء السياسيين، للتوصل إلى تسوياتٍ سياسيةٍ تنهي حالة الجدل بشأن ملف أمن الانتخابات، وإجراءات تصحيح مسارها.
مستقبل الصومال وتونس رهن سياسات رجلين يحملان أيديولوجيات شعبوية مشتركة
لن تؤدي قرارات رئيس تونس الأحادية الجانب ومحاولاته التفرّد بالسلطة إلَّا إلى نتائج عكسية في مستقبل نظامه السياسي الذي يفقد شرعيته بانتهاكه الدستور، وفي مقدمتها تجميد عمل البرلمان فترة أخرى، وهو ما اعتبره الرجل إصلاحات سياسية بعد عقد من الأنظمة السياسية الفاسدة التي لم تحقق شيئاً يذكر للتونسيين، ولم تستجب لمطالب الثوار الذين أطاحوا نظام بن علي، كما يروّج قيس سعيد. ولكن علامة الاستفهام ستظل باقية، فهل سيتمكن هو الآخر من تحقيق وعوده للشعب التونسي، فما يجيده قيس تونس استخدام الخطابات الشعبوية، وشيطنة معارضيه ورميهم بـ"الخيانة". وقد تجلى هذا التصور في مواجهته أول رئيس تونسي بعد الثورة، منصف المرزوقي، لا لشيء إلا لأنه عارض إجراءات قيس سعيّد، متهماً إياه بـ"الانقلاب". وفي المخيلة التاريخية في الحاضر العربي، لم تسهم الشعبوية ومضامينها في التحول الديمقراطي في الدول العربية التي يعيش بعضها في نظام ديمقراطي انفلت في لحظة فارقة من كبت الدكتاتوريات، متأثراً بالديمقراطيات الغربية، والتي لعبت الشعبوية فيها دوراً أحياناً وليس دائماً في عملية الانتقال الديمقراطي.
في النهاية، يبقى مصير تونس بيد قيس سعيّد، وما إذا كان قادراً على انتشالها من الفوضى التي تعيشها نتيجة إجراءاته السياسية والقانونية، ومدى قدرته على إجراء انتخابات برلمانية ديمقراطية نهاية العام الجاري، بعد الاستفتاء الشعبي للدستور في يوليو/ تموز المقبل. ولكن قبل ذلك لا يمتلك سعيد ضمانات حقيقية للوصول إلى مبتغاه، فما زال الشارع التونسي موعوداً بثورات جديدة، ما يمكن أن يمثل الفيصل في المشهد التونسي بين استمرار سياسات رئيسها أو عدمها، وهو الذي لا يألو جهداً من أجل مقارعة خصومه بالمحاكمات السياسية ووصفهم بالخونة، بغض النظر عن الأوضاع الاقتصادية الهشّة في البلاد. أما في المشهد الصومالي، فالأمل معقود بانتخاب رئيس جديد لا يحمل ضغينة سياسية لتيار قبلي أو سياسي. أما إذا عاد فرماجو إلى الحكم، فإن خطر انزلاق الصومال إلى حرب أهلية ما زال باقياً، ما لم يجر مصالحات حقيقة مع الداخل والخارج قبل خوض المنافسة الانتخابية. ويبقى مستقبل الدولتين رهن سياسات رجلين يحملان أيديولوجيات شعبوية مشتركة، ويتخذان قرارات عواقبها وخيمة، مردّها الجرأة وعدم اللامبالاة بالردّات العكسية لقرارتهما، سلباً أو إيجاباً.